«أضواء».. قصة قصيرة للكاتب حسن رجب الفخراني

حسن رجب الفخراني
حسن رجب الفخراني

بالرغم من مرور ساعات علي مغادرته عيادة الطبيبة إلا أن كلماتها المقتضبة لا تزال تصك أذنيه وكأنها أحجار ثقيلة تضغط في عنف وبلا شفقة علي صدره, فلا يقر لنظره ملجأ .

ترمقه زوجته من بعيد في كمد وحسرة , تخشى الدنو منه أو مجرد التفكير في سؤاله عما أخبرته به الطبيبة, هي تعي أنه في دوامة عنيفة وحزنها شرس جراء تلك الزيارة .

تحتضن ابنتها الصغيرة في صمت عميق, تندفع علي حين غرة منها دموعها ملتهبة.

لا زال بعض من أضواء الشارع يحاول أن يتسلل خفية ليسكن فوق الوجوه التي سكنها الهم , حتى اعتادت عليه وصار رفيق أيامهم , وسامر لياليهم.

الصرير المنبعث من الباب الخشبي المتهالك, يحاكي في رتابته دقات بندول ساعة, وهو بين الحين والآخر يعلن عن تأكل هذا الذي طعن في العمر وقد ألقيت أحشائه وحواشيه أمام النوافذ العارية وصدأ مفاصله وانكسارها لم يعد من الإمكان إخفائه.

يحاول الفرار ولو مؤقتا من تلك الكلمات, يشله الفشل, والإخفاق طالما كان رفيقه المخلص.

: تحتاج أولا لسكن غير الذي أنتم فيه الآن.....

ألقتها ببساطة وكأنما تطلب منه شراء ملابس جديدة للصغيرة .

خرج من العيادة ويكاد لا يرى موطأ لخطواته المرتعشة, أني له بتحقيق ما طُلب منه ؟

 التقت عيناه بعيني الصغيرة, وهي تكاد تبدأ غفوتها القليلة, فطالع فيهما ابتسامة بلا مغزى ولكنها كانت خنجر تمزقه به  .

دنت منه زوجته وربتت علي كتفه في شفقة وأمامه وضعت بعض الطعام البسيط قائلة

: لأجلها كل هذا, فأنت منذ الصباح لم تذق شيئا وأوشكت أن تذهب للعمل.

في حركة آلية امتدت يده للطعام وألقمه فيه, الذي أحتاج كثيرا من الصبر والإقناع حتى وافق علي مرور القليل منه.

: سوف أنام , أحتاج لبعض الراحة , عقب آذان العصر أيقظيني.

أحلام الوجع لا تترك الضعيف برهة واحدة, تطارده أينما ذهب وأينما حل, وربما في منامه أكثر من يقظته.

باب الورشة التي يعمل بها أصبح كأنه جلمود من الصخر, يحاول رفعه فيخفق ويتفصد العرق من جبهته وبعض قطرات القهر من أحداقه.

يدنو منه صاحب العمل وبسهولة يرفعه .

ثم يحضر له مقعدا, يجلس عليه ولا زال نهر الفكر يعصف به وتلك الكلمات التي وكأنها سوط من التقريع, لا تنفك تجلده, وتطلق ضحكاتها الهازئة, وتكشف عجزه علي الملأ.

حل الغروب وهو لا زال رهين مقعده وتفكيره، كيف يغير مسكنه؟

 إن تلك الشقة الدميمة القميئة, التي لا ترى نور النهار إلا من بين شقوقها وكأنها مسام ورق الشجر هي الوحيدة التي انتشلته من النوم في خيمة مهترئة علي نواصي الدروب, لم تمض شهور قليلة منذ قطنها, إيجارها زهيد وهو يكاد يتحصل علي القليل من عمله, بل قد تمر أيام بدون عمل .

هل هو الحظ العاثر, أم ربما غضب الأيام عليه, بلا جريرة اقترفها أو إثما معلق بجيده, يشعر بأن كل الدروب لم تعد تسمح له بالمرور عليها, وأن كل الأبواب توشك علي الإغلاق قبالته, إن لم تكن فعلا قد أغلقت.

لا يهم , تكفيه شمسه الصغيرة التي وكانت منبع الحزن الدفين الذي لا ينجلي من سمائه , إلا أنها هي الريحانة  الوحيدة في حياته وهي الخيط الذي يربطه بتلك الدنيا, ويخشى ما يخشاه إن ينقطع يوما هذا الخيط ولا يعد لديه من زهرته عبق .

: يبدو عليك الإجهاد , اذهب أنت, واعتبره يوم عمل .

إي راحة تلك ولا تزال غيوم القهر تطل عليه بوجهها العابث.

أفض لزوجته ما خشيت أن تسأله عنه , لزمت الوجوم ولم تتفوه بحرف واحد, وإن نطقت نظراتها التائهة بالكثير الذي خشيت البوح به, أو ما تخشاه.

في أيام قلائل ترك هذا البدروم العفن, الذي كانوا يطلقون عليه جزافا اسم شقة ومن القاع سكنوا في القمة, قمة تلك العمارة الشاهقة,غرفة ضيقة وبجانبها مرحاض, قلما يصله أصلا المياه, المهم انها تطالع الشمس منذ شروقها إلى الغروب والهواء علي هذا الارتفاع يكون علي جانب كبير من النقاء, بعيدا عن القاع الرطب الذي أصبح مرتعا خصبا لشتي الأمراض المستوطنة , أو حتى التي تجئ تلقي التحية علي الكادحين من أهل القاع ثم تولى أدبارها .

صبيحة كل يوم تحملها الأم برفق شديد وترقدها فوق بطانية ممزق أحد جوانبها وتجلس بجانبها تراقبها في وله وفي حزن ثم ترفع رأسها للسماء وترسل رسالة .

: ها قد فعلنا ما طلبتي أيتها الطبيبة .

نظرت إليه ثم قالت

: العلاج مكلف والدواء باهظ الثمن .

شعر بتلك الكلمات وكأنها تنتزعه من حيث يقطن وتلقي به بين أحضان أسفلت الشارع

: أنا أكاد أملك قوت يومي, أحايين لا أملكه.

:عليك أذن وعلي العلاج علي نفقة الدولة, الصغيرة تحتاج لكثير من الوقت وكثير من العلاج والدواء, وكثير من الدعاء.

يحملها وكما اعتاد دائما بحرص زائد جدا , يخشى أن يقترب منها أحد أو شيئا مهما يكن, هي درته الثمينة وبقدر قيمتها التي لا تقدر يجب الحفاظ عليها حتى من تساقط ورقة شجرة  فوق هذا الوجه الوردي .

هاله ما رآه حين وضع قدمه في هذا المكان الذي تعلوه لافتة باهتة بحروف تكاد تقرأ (القومسيون الطبي العام), كثيرا مثله وربما هناك من يحمل علي عاتقه أضعاف ما يحمله هو من كمد ووجع وحزن, وخوف من الأيام المقبلة, والتي يخشى أن يندحر أسفلها .

لا أحد يكترث بهذه الحشود الغفيرة من البشر, جميعهم لديه ذات الأمل الملقي علي الأرض وهم لا زالوا في انتظار عطية القدر وهبة السادة المسئولين حين يتم استدعاء أحدهم كي يقدم طلبه وينتظر دوره في الكشف الطبي.

رائحة الألم وتقيحات الجروح , وتراب المكان تبعث علي القشعريرة وتغلق شرفات الحياة , بل تكاد أن تكون إعادة تدوير للرفات.

أسفل ظلال شجرة جفت أغصانها منذ مدة ليست بعيدة وقد عقم جذعها ونضب عطائها استلقي ومعه الكثير من الهاربين علي شاكلته من قيظ الشمس الحارق واللامبالاة التي تطاردهم في صلف.

: ابنتك تم الكشف عليها وفحصها جديا , وانتظر القرار, لكن ليس قريبا , ربما لشهور أو أكثر.

ليلا حين كان جالسا مع أصحابه علي المقهى في نهاية الحارة التي كان يسكنها سابقا, أخفق في كتم ما يعتمل في نفسه من شجن وخوف من كل غروب أو شروق لأمل .

مال عليه صديقه المقرب وهمس في أذنه

: لن تجد مرفأ لسفينتك الحائرة إلا في المجتمع المدني .

رد عليه وتلك الكلمات ربما يسمعها للمرة الأولي قائلا في عجب

:لا أعي ما تقول , هل هي مشفى آخر.

استطرد الصديق قائلا بلهجة العالم ببواطن الأمور

: بل هي أماكن خيرية قوامها ما تجمعه من تبرعات من أهل الخير الذين وهبوا تلك القنوات عطاياهم ثقة فيهم كي ينفقوها في مسارات الخير والبر وكي يتم إنفاقها علي ذوي الحاجة ومن يرتقبوا من الحياة مجرد قضمه خبز أو جرعة من الدواء.

لم يترك واحدة قد سمع بها أو شاهد إعلان لها علي التلفاز إلا وقصدها .

 أخيرا سوف يجد قُبلة حقيقية للإنسانية , وقِبلة لحياة البائسين.

: مع الأسف ابنتك لا تستحق المساعدة.

: لما ؟

: ابنتك علتها ليست للدرجة التي تلمس قلوب الناس , أو تستذرف الدمع والمال.

حملها كما اعتاد دائما , خلفه هذا الصرح العتيق الذي لا يكف إناء الليل أو أطراف النهار عن بث إعلاناته عبر الشاشات ومن فوق الصحف - التي قلما تقرأ - عما يقدمه من مساعدات إنسانية وأنه لا يأبه بأية صعوبات في سبيل مد يد العون لمن لا يد لهم أو لسان, وبذل  الكثير من أجل الكرامة والعزة لكل فقير وهباته لا تعد ولا تحصى, وفي نهاية الإعلان وجب عليك الآن أيها القادر التبرع من أجل الفقراء.

 

غلبته ضحكة  - ربما انتظرها كثيرا أن تأتي يوما – ساخرة من هذا العبث, والذي هو ومن علي شاكلته من يدفعوا ثمنه , أما هؤلاء فهم لا يعدوا كونهم شرذمة من اللصوص , أدعياء الرفق بالفقراء ليلا وهم يذبحونهم نهارا, من يهبوا أهل الحاجة كسرة خبز من أجل الحصول علي عضوا من أعضائه مقابلها.

داعب ابنته في سعادة ورضا لا يدري مبعثهما.

غادر هذا المكان ولاذ بغيره , لكن في كل مرة يلتقي ذات الوجه بنفس الملامح البلاستيكية  والعيون ذات المقل الحمراء كالدم .

والأفئدة الموتى.

تبسمت الصغيرة ثم قالت لوالدها ببراءة طفولية

: أبي, هل سوف أموت قريبا

كانت أضواء الشارع تخفت.. أحيانا تتلألأ.