«تنتقم لوحيدها» قصة قصيرة للكاتب علاء عبدالعظيم

قصة قصيرة للكاتب علاء عبدالعظيم
قصة قصيرة للكاتب علاء عبدالعظيم

في بيت من الطوب اللبن والعشب، تقيم أم جاد الأرملة العجوز مع وحيدها جاد، وتطل النافذة الوحيدة فيه على الأفق الأخضر الذي ينتهي برمال الصحراء في الوادي جنوب إحدى محافظات الصعيد، ويعيش معهما كلبة سوداء من النوع الذي يدعوه القرويون "الأرمنتي".

 

وفي ليلة من ليالي الشتاء سهرت الأم إلى جوار موقد صغير من الطين في انتظار وحيدها، فقد كان من عادته كلما عاد من الحقل أن ينظف وجهه ورأسه من الأتربة التي علقت بهما ثم يذهب إلى المقهى الوحيد في القربة حيث يشرب الشاي، ويدخن "المعسل"، ويلعب الورق مع أترابه، ويعود قبل منتصف الليل إلى أمه.

 

في تلك الليلة، وعلى إثر مناقشة حادة قامت بينه وبين شاب ماجن يدعى عبد المقصود، تبادلا الركلات واللكمات، وتمكن عبد المقصود منه وسدد له ضربة قوية قتلته في الحال.

 

ولما تسلمت الأم جثة وحيدها لم تذرف دمعة واحدة، ولم تقطع ثيابها كما توقع أهل القرية، بل جلست في هدوء إلى جوارها، ومدت يدها المجمدة تتحسس جبهته الباردة، وأقسمت بأنها ستنتقم له.

 

وكم حاولت عجائز القرية أن يقمن معها حتى الصباح.. رفضت أن يبقى معها أحد في بيتها، ومكثت إلى جوار وحيدها الجامد كقطعة الخشب.

بينما كانت الكلبة لا تنقطع عن عواء طويل، تنظر خلاله إلى جثة سيدها الملقى على السرير، والى الأم العجوز التي انحنت على الجثة، وكأنها تؤكد وعدها بعقاب المجرم.

 

بقع قانية تلطخ قميصه ولباسه، ووجهه، ويديه وقد تجمدت قطرات من الدماء على شعره وذقنه، فخاطبته، وكأنه يعي ما تقول، وتحدثت إليه طويلا:

"سانتقم لك يا ولدي.. اسمعني يا عزيزي.. أنا أمك التي تعد بذلك" ثم مالت عليه ببطء حتى كادت تقبل جبهته.

 

أخذت الكلبة تعوي، وتئن أنينا مؤثرا، ومخيفا، وظل الحال كذلك حتى جاء الصباح، واختفى كل أثر لجاد، ولم يعد أحد يتكلم عنه في القرية، فقد رحل ولم يترك لها أخا، ولا ابن عم ليأخذ بثأره، فكانت أمه هي الوحيدة التي تفكر فيه.

 

وكانت الأم العجوز تجلس وحيدة طيلة اليوم، تطل من النافذة نحو الأفق، ونحو الحقل الذي يعمل فيه عبد المقصود قاتل وحيدها.

 

ورأسها مثقل بالتساؤلات كيف تصل إليه وهي عجوز مريضة ونهايتها تقترب كل يوم.. لكنها وعدت وأقسمت أمام أغلى شيء عندها.. فهي لا تستطيع أن تنتظر.

 

خطرت ببالها فكرة العقاب الذي اعتزمت أن تنزله بمن خطف منها وحيدها، وأخذت تفكر حتى الصباح، ولم تر عيناها النوم من شدة الأرق والتفكير في الانتقام، ثم قامت إلى الكلبة، فقيدتها في وتد الغرفة المجاورة، وتركتها طوال النهار بلا ماء ولا طعام.

 

والكلبة لا تسكت عن العواء، وعند مغيب الشمس حملت إليها قليلا من الماء. فشربت ونامت من شدة التعب.

 

وفي اليوم التالي كان الجوع يؤلمها، فظهر الشرر في عينيها، وكانت تشد الحبل بقوة حتى كادت تقتلع الوتد وشعرها ينتفض.

 

لكن العجوز لم تعطها أي شيء في ذلك اليوم أيضا، فجنت الكلبة، وأخذت تنبح بصوت مبحوح.

 

وانقضت الليلة الثانية على هذه الحال، وعندما طلعت الشمس أحضرت الأم بعض ملابس قديمة، حشتها بالقش، وصنعت منها جسم إنسان على شكل رجل ثم أوقفته على عصا، ووضعته أمام الكلبة التي دهشت، وأخذت تنظر إلي هذا الرجل، وسكتت رغم الجوع الذي كاد يقتلها.

 

ذهبت الأم إلى بيت جزار القرية، واشترت قطعة لحم، وأشعلت النار أمام الكلبة، وأخذت تشوي اللحم، وكانت الكلبة تقفز في وحشية، وتنظر إلى الغذاء الذي تفوح رائحته في الحجرة بجنون.

 

وضعت العجوز قطعة اللحم حول عنق الرجل الذي صنعته بيدها، وربطتها جيدا، وفكت قيد الكلبة التي قفزت قفزة هائلة وصلت بها إلى عنق الرجل، والتهمت قطعة اللحم في ثوان، وشاهدت الأم ذلك وعيناها يتطاير منها الشرر.

 

ثم أعادت قيد الكلبة مرة أخرى، ومنعت عنها الطعام لمدة يومين، وأعادت نفس ما فعلت في المرة الأولى، وأخذت تمرن الكلبة على هذا شهور ثلاثة.

 

ولما تأكدت من أنها أتقنت القفز والالتهام، كفت عن تقييدها وعلمتها بإشارة بسيطة من يدها تمزق، وكيف تلتهم الشخص الذي أمامها، وكانت تكافئها دائما بقطعة كبيرة من اللحم.

وبعدها قررت أم جاد أن وقت عقاب المجرم قد حان.

قبل أن تبزغ الشمس، اصطحبت كلبتها بعد أن أجاعتها يومين مرة أخرى، وجلست أمام بيت عبد المقصود، وكان أول الخارجين في الصباح  من بيته، فما أن رأته حتى نادت عليه ثم التفت إليها، وأطلقت كلبتها وهي تشير إليها كما عودتها وتقول: "كليه.. كليه.. زي ما أكل ولدي".

 

وقفزت الكلبة المجنونة بالجوع إلى رقبته، وأخذ يقاوم، ويضرب الأرض برجليه، ويرفع يديه.. حتى سكت عن الحراك، غادرة روحه ومعها الأرق الذي أصاب الأم منذ وفاة ولدها.