عاطف سليمان يكتب: قيامةُ النصوص

عاطف سليمان
عاطف سليمان

شملت عمليةُ تنميط العالَم كلَّ مجالات الحياة  بدءاً من إنكار الماهية الطبيعية للأشياء، مروراً بالتحكم فى استهلاك السلع، إلى التلاعب بمنظومات القِيم والسلوك، إلى تفخيخ مفاهيم العلاقات الإنسانية، إلى ابتكار «هوية الجندر» وإرساء تكوين الأسرات على أسس غير سوية جنسياً، إلى إيهام الجموع بالمرض وإثارة الهلع من أوبئة مخترَعة خيالية وفرْض علاجات مشبوهة، ولم يكن التنميط لِيعنى المؤالفةَ ولا الإفضاء إلى أى تكتلٍ أو تضامن بل عَنيَ القولبة، وقضى ببعثرة الذوات، وتمكين القلق، والثأر من كل سمةٍ لها جذر حضاري، وتصفية كل جذوة، ذلك أن التنميط يرعى التلفيقَ ويناوئ الإبداع. ولم ينجُ الفنُّ والأدب والنقد من تدابير مماثِلة وتدخُّلاتٍ متراكِبة متشابكة كان لها أنْ حاقَت بالغرف الأخرى من البيت، وباتت تتنقّل بينها جميعاً وتؤتى مفاعيلَها بتسارُعِ مُتواليةٍ هندسية أو أعجل. 

يثير الأدبُ فى قارئه ليس فقط الرغبةَ فى قراءته وإعادةِ قراءته بل كذلك فى مطالعة تدوينات قُرّاء آخرين عن تجاربهم فى قراءة كُتبٍ أو كتاباتٍ أدبية والاستمتاع باللماحية والاستفادة من الإنارة التى يقدمونها، لا سيما إذا كانوا ذوى فِطنة وبصيرة واستشفاف وحذق وقدرة نزيهة على النقد. وفى نطاق الفنون الكتابية وما يرتبط بها ويواكبها ويستتبعها من أنشطة لازِمة، مثل نقد الأدب أو نقد الكتابة، توالت باضطرادٍ المستحدثاتُ النقدية الخاضعة والتابعة للتنميط، لَكأن الغاية من ذلك هى تجميع نظرية خاصة بالنقد الأدبى متجزِّئة إلى عناصر كثيرة متناهية الصِغر يمكن تعبئتها فى برنامج إليكترونى أو روبوت يتولّى التعامل مع النصوص الأدبية باعتباره ناقداً أدبياً وثقافياً يدبِّج مقالاته ودراساته النقدية عن أية نصوص بمجرد إدخالها إليه. 

النقدُ الأدبى الحق هو قيامةُ النصوص؛ ويقضى تكريسُ مستحدثات النقد الأدبي، الماثلة للآلية، إلى نزْع أدبيَّة الأدب وإلى التنكُّر لآياتِ التفاعل الإبداعى الحيّ مع النص الأدبى؛ وليس صعباً إدراكُ أن نقْض الاشتباك العارم الشبيه بالقرأن بين النقد والنص كان هو مبتغى مؤسِّسى المواد النقدية الحديثة وقد زالَ من تشريعاتهم النقدية كلُّ ما له صلة فى عمل الناقد الشخص بحضوره الخاص المتفرِّد؛ فلا اعتراف بالمخيّلة،  ولا اعتبار لجماليات النصوص، ولا إتاحة لأحكام القيمة؛ وليس هنالك سوى تجريد الناقد إجمالاً من أحقيته فى التعبير عن ذائقته الفنية الأدبية الشخصية، بل تجريمه إذا اشتط فأباح لنفسه استهجانَ نصٍّ أو تقريظَ آخر، بما يعنى عدم الإبقاء له إلا على ما يليق وحسب بآلةٍ ناقدةٍ، فلَكأنّ الساحة إذاً تُخلى لها، ذلك أنّ الشأنَ النقدى قد بات مُقتصِراً على بحث جزئيات العمل الأدبى، مع الحرص على انسحاب الناقد من مسؤولية إطلاق النظرة الشاملة على النص كَكُل، وتخلّيه عن التعامل مع تَعدِّى النصوص لجزئياتها وتَفوُّقِها على أبعاضِها، وامتناع ذاك الشأن النقدى عن استكناه المضمَر وعن استجلاء المكتوب بين السطور، وتوخّيه السُّبُلَ التى لا تذهب به إلى إصدار أحكامٍ على أى مقروءٍ؛ إذْ إن كل النصوص - بحسبهم - متساوية، بل إن كل شئ يساوى أى شئ آخر ما دام يوجد هنالك فى هذا العالَم شخصٌ واحدٌ - بحسبهم - يرتأى ذلك! هذا عن النص، أمّا عن مؤلِّف النص فالنقدُ الأكاديمى يحظر التطرُّق إليه، معتبراً أيةَ إشارة بخصوصه إجراءً زائداً بل ضاراً. 
غيرُ خافٍ وجودُ صنوفٍ من التعصُّب والتمييز؛ مثل التمييز الشائع على أساس الدين أو اللون أو الطائفة أو القومية إلخ، ومعلوم أن كل هذه التمييزات ممنوعةٌ أو مرفوضة أو مكروهة فتُناهَض بحُكم القوانين أو الأعراف أو المرجعية الإنسانية. ولعل المستجَد هو نشوء نوع جديد من مناهضة التمييز يتولّاه النقد الأدبى الأكاديمى الذى يعتبر أن كل النصوص الأدبية لها القامة نفسها، واستناداً إلى هذه المناهضة لا يجوز لأى شخص إصدار حكم سلبى على أى نص، فالنقد الأكاديمى ليس يقبل أنْ تُوسَم رواية بالرداءة، ويُعاقِب حالياً التمييزَ بين النصوص الأدبية بالنبذ وعدم القبول فى الوسط الأكاديمى، إذْ لم تُسنَّ له، بعد، بنودٌ عقابية بالقانون الجنائي. 

لئن كانت أيادٍ قد طالت أُسسَ التوجّه النقدى فإن أيادٍ آزرتها بالنيْل من ماهية العمل الإبداعى أصلاً؛ إذْ استُبيح «تعريف العمل الفنى» بمجاهَرةٍ كهذي: «إنّ العمل الفنّى هو أى شئ يمكن لأى شخص، وفى أى وقت من الأوقات، أن يُعِدَّه عملاً فنيّاً، رغم أن ذلك الشخص قد يكون (هو) الوحيد الذى يُعِدُّه عملاً فنياً». إنّ إنزال الاضطراب والفوضى مبدأياً فى تعريف العمل الإبداعى هو تمهيد وترخيص بإباحة وإتاحة كلّ صنوف الرعونة فى طرائق التعامل مع الأعمال الإبداعية. 

يتعامل النقد الأكاديمى الحديث للأدب مع النصوص الأدبية كجمعٍ من شذرات؛ غير أنّ المختصين بالسياسة والأسواق والحروب، أصحاب الحيثيات المعتمَدة المعولَمة، يهتمون بالتعامل الكُليِّ مع هذه النصوص التى تُفحَص لديهم باعتبارها ليست سوى أقنعة يتوجّب تمزيقها والتلصُّص عليها لاستبيان ما خلفها من علاقات وامتيازات سلطوية وأبنية اجتماعية مختفية، بغرض الوصول إلى خُلاصاتٍ يوظِّفها ويستنفع بها المهيمنون على السلطات والأسواق، وعلى ذلك لا يكون عموم الأدباء إلا رهط شغيلة يُراد منهم التبارى والعكوف على سبْر مجتمعاتهم لصالح الأعين المترقِّبة، وكذلك يُستغَل بعضُ المشهورين منهم وذوو المبيعات الواسعة لكتبهم، فى مقابل الرعاية لهم، باستلهام بنود عولمية أخرى، كالمثلية الجنسية، ودسّها بطرائق حاذقة فى كتاباتهم بقصد تحبيذها ودعمها. 

لا شئ يستعمل ويحتقر الأدبَ مثلما يستعمله ويحتقره النقدُ الأكاديمى المحدَّث المشحون بنظريات ومناهج جرّدت الأدبَ من سِماته واستقلاله وضرورته. ولا ريب، فى اعتقادي، أن وقائع النقد الأدبى فى العقود الأخيرة وما قد يستجد لاحقاً هو نكوص مريع ومزرٍ عن المنجزات السابقة عبر تاريخ البشرية فى هذا المجال. ومن حُسن حظوظ سرڤـانتس وشكسبير ودوستويڤسكى وتولستوى وعُظماء المبدعين أنهم ظهروا قبل عصر إنفاذ النقد الأكاديمى الحديث فاحتشدت لأعمالهم، فى أزمانها، بدائعُ نقديّة رفيعة مبدعِة ورؤى كاملة تضاهى مقامَ هذه الأعمال، وإلا أُلقيَ بها فى المعامل الأكاديمية لدرسِها كقطائع مجزّأة، وإلا عُهِدَ بها نقديّاً إلى هواة الصحافة وجماهير القراء والمدوِّنين وأصحاب الصفحات على مواقع الإنترنت.

كانت الأيامُ تترى، وبينما كانت تترى جرى تحويرٌ وأُقِرَّ تلاعُبٌ؛ فبفعلِ فاعلٍ طُرِدَ الشعرُ من القصائد، ومُحِقَ الطربُ من الأغنيات، وانزوى الإشراقُ عن الحُب، بل نُزِعت حتى التقوى من الشعائر.