أيمن موسى يكتب: تحولات إيجابية في موقف روسيا من القضية الفلسطينية

أيمن موسى
أيمن موسى

■ بقلم: أيمن موسى

منذ الاتحاد السوفيتي السابق وحتى الآن كانت هناك محددات معينة تتحكم فى الموقف الروسى تجاه النزاع العربى - الإسرائيلى وبالتحديد الشق الفلسطينى منه، ورغم أن الاتحاد السوفيتى كان فى طليعة الدول التى اعترفت بقيام الدولة الإسرائيلية إلا أنه ظل دائما يرفض الممارسات الإسرائيلية الوحشية ضد الفلسطينيين إلى أن اندلعت شرارة حرب 1967 وأقدمت إسرائيل على احتلال المزيد من الأراضى العربية وانتهاك قرارات الشرعية الدولية فقام الاتحاد السوفيتي بدوره بقطع العلاقات مع الدولة العبرية، واستمر الاتحاد السوفيتى فى دعم وتعزيز الدول العربية فى مواجهة إسرائيل التى رغم أنها دولة احتلال ومركز من أكبر مراكز انتهاك حقوق الإنسان فى العالم وارتكابها للمجازر التى يندى لها الجبين الإنسانى، ظلت تنعم بمساندة الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الذين أمعنوا فى تبنى سياسات الكيل ليس بمكيالين بل بالكثير من المكاييل ويتناسون كافة الاعتبارات التى يتشدقون بها حول حقوق الإنسان والطفل ورفض التمييز العنصرى والدعوة للديمقراطية فى كل مكان وظلت إسرائيل تمارس شتى أنواع التنكيل بالشعب الفلسطينى على امتداد السنوات والعصور المختلفة بدعم مباشر وصريح من الغرب.

وظل الاتحاد السوفيتي ومن بعده روسيا يتمسك بموقفه تجاه هذا النزاع ويتبنى الحقوق العربية فى كافة المحافل الدولية وظلت علاقات روسيا مقطوعة مع إسرائيل إلى أن بدأ الحديث عن مسيرة جديدة للتسوية وهى مسيرة مدريد حيث كان استئناف العلاقات الدبلوماسية بكامل قوامها بين البلدين شرطا أساسيا على موافقة إسرائيل على مشاركة الاتحاد السوفيتى كشريك فى المفاوضات مع الولايات المتحدة فى مدريد.

والحقيقة أن استئناف العلاقات بين البلدين ربما ارتبط فى المقام الأول بتقديرات فى مختلف دوائر الخبراء والدبلوماسية والسلطة فى الاتحاد السوفيتى حيث ارتبطت هذه التقديرات بأن العالم العربى ذاته شهد نوعا من التطور تجاه التعامل مع إسرائيل والغرب وأن مصالح الاتحاد السوفيتى قد أصبحت تقتضى إعادة النظر هى الأخرى فى طبيعة علاقاتها مع إسرائيل، واعتبار تواجد عدد كبير من المواطنين السوفيت السابقين فى إسرائيل أحد العوامل الرئيسية التى ينبغى أن تحكم العلاقات بين البلدين.

◄ خصوصية روسية
ودون الخوض فى تفاصيل تطور الموقف الروسى من التعامل مع النزاع العربى الإسرائيلى يمكن القول بكل ثقة إن نظرة روسيا للمسألة أصبحت تتسم بطابع أكثر خصوصية فالنزاع لم يعد بين العرب وإسرائيل وإنما يقتصر فقط على القضية الفلسطينية، وأصبحنا نرى اختلافا بينا بين تناول الإعلام الروسى للأحداث فى الأراضى المحتلة وبين الموقف الرسمى للدولة، فالأوساط الدبلوماسية والسياسية فى روسيا ظلت لعقود تفضل التزام نوع من الحياد تجاه الأحداث بحيث تطالب بضبط النفس والالتزام بقرارات الشرعية الدولية والعمل على تجنب وقوع الضحايا من المدنيين، بينما كان الإعلام الذى سيطرت عليه أوساط تتصل بالتنظيمات اليهودية والدولة الإسرائيلية يدين بشكل غير مباشر وفى الكثير من الأحيان بشكل مباشر التحركات الفلسطينية ولم يعد ينظر إليها من منظار المقاومة أو الدفاع عن النفس وأصبح مفهوم الدفاع عن النفس مقصورا فقط على إسرائيل وحقا منفردا لها.

هذا التطور فى المواقف يمكن ربطه بشكل أساسى بعاملين أساسيين، أولهما لا يمكن أن ننكره هو المصالح الشخصية حيث إن الكثير من رجال الأعمال والأوليجار والإعلاميين فى روسيا كان لهم مصالح مع إسرائيل التى أصبحت فيما بعد الملاذ للفاسدين، والعامل الثانى الذى لا يقل أهمية إن لم يزد عنه هو «عامل الإرهاب» الذى اجتاح روسيا بشكل قمىء ووحشى وأصبح يهدد صورة الدولة وهيبتها فى الداخل والخارج والذى دفع روسيا للبحث عن أى سبل لتقويضه وكان على رأس هذه السبل وكذلك بناء على تقديرات الخبراء والأوساط الإعلامية المختلفة ـ الأسلوب الإسرائيلى فى مواجهة مجموعات المقاومة الفلسطينية التى تعتبرها إسرائيل والغرب مجموعات إرهابية وأصبح الإعلام الروسى هو الآخر يتبنى هذا التوصيف ويحاول تأصيله فى مواقف الدولة الرسمية.

◄ السبب الرئيسي
وكما أشرت من قبل أن أكثر ما ساعد فى هذا النوع من التطور فى المواقف الروسية على مختلف المستويات هو الموقف العربى فى المقام الأول حيث رأى المنظرون الروس أن الدول العربية والإسلامية تحرص بشكل قوى على علاقاتها مع الغرب والولايات المتحدة وتنأى بقدر الإمكان عن روسيا رغم المساندة المطلقة للغرب لإسرائيل ورغم وقوف روسيا فى فترات كثيرة مع هذه الدول.

في نفس الوقت كانت استطلاعات الآراء الكثيرة التى تجرى فى روسيا تؤكد بجلاء أن الشعب الروسى أصبح ينظر إلى الأحداث فى فلسطين على أنها عمليات إرهابية وربما نسى القضية برمتها ولم يعد يعلم شيئا عن الأراضى المحتلة وقرارات الشرعية الدولية وتساند الغالبية العظمى منه الجانب الإسرائيلى الذى يعتبرونه محاطا بشعوب همجية تريد أن تحرمه من حق الحياة والبقاء.
ولكن فى الآونة الأخيرة فاجأتنا روسيا رغم تمسكها نوعا ما بموقفها الحيادى من الأحداث بتطور نوعى ربما يغيب عن غالبية الدولة العربية والإسلامية، وهذا التطور لم يقتصر على الأوساط الرسمية وعلى رأسها مؤسسة الرئاسة الروسية بل وانصرف بقدر كبير جدا على وسائل الإعلام المختلفة.

وقبل أن نخوض فى النظر إلى تفاصيل هذا التطور يكفينا أن نشير هنا إلى نتائج استطلاع للآراء أجرته مؤسسة «الرأى العام» الروسية فى أعقاب أحداث السابع من أكتوبر حيث دار موضوع الاستطلاع عن الرؤية تجاه المتسبب فى هذا التطور الدامى للأحداث وأظهر الاستطلاع أن 10% يرون أن الغرب هو المتسبب الأول فى هذه الأحداث بينما يرى 12% أن السبب هو النزاع على الأراضى، كما أظهر أن 10% يساندون الفلسطينيين و9% يساندون الإسرائيليين بينما أكد 73% أنهم لا يساندون أى طرف.

وأكدت المؤسسة أن هذه النتائج تظهر تطورا واضحا فى موقف الرأى العام فى روسيا حيث إن من كانوا لا يساندون أحدا فى استطلاعات عام 2012 كانت تصل نسبتهم إلى 66% وكان وقتها 13% يساندون إسرائيل و5% فقط يساندون الفلسطينيين.

◄ تغير الموقف الرسمي
وهنا ترصد المؤسسة هذا التطور وتربطه بتطور الموقف الرسمى فى روسيا مشيرة إلى أنه ينبغى الاعتراف بأن الموقف الرسمى لسلطات الدول المختلفة يؤثر بشكل مباشر على موقف الرأى العام فى هذه الدولة وكون الرأى العام فى روسيا قد أصبح ينظر للأمور فى الشرق الأوسط بشكل مغاير فهذا يعنى أن القيادة الروسية أصبحت هى الأخرى تتبنى مواقف مغايرة وواضحة وصريحة بحيث يلمسها المواطن ويتأثر بها.

كان من الواضح منذ بداية الأحداث التى كانت مفاجأة مدوية للكثيرين أن روسيا تحرص على التزام الطابع الحيادى مع إدانة تعريض المدنيين للخطر، ولكن سرعان ما طرأ أول تطور من خلال منتدى أسبوع الطاقة الذى عقدته روسيا حيث خصص الرئيس الروسى جلسة للحديث عن الأحداث فى الشرق الأوسط وهى الجلسة التى كان يديرها الإعلامى المصرى المعروف عمرو عبد الحميد حيث بات واضحا أن الرئيس الروسى يرفض التسليم بالتوصيف الإسرائيلى والغربى لما يحدث وحرص على تسليط الضوء على حقوق الفلسطينيين التى ظلت إسرائيل والغرب يتغاضيان عنها لعقود طويلة ، وأكد أن الحل يكمن فى تنفيذ قرارات الشرعية الدولية المتمثلة فى إقامة الدولتين وأن ما جرى وقع على أراضٍ محتلة نتيجة سنوات وعقود طويلة من القمع الإسرائيلى ، كما ذكر بأن الأطفال والنساء والشيوخ من المدنيين الفلسطينيين كانوا أيضا ضحية للممارسات الإسرائيلية، ورفض الرئيس الروسى ومن بعده الخارجية الروسية ومندوب روسيا الدائم فى الأمم المتحدة اعتبار ما تقوم به إسرائيل من قبيل الدفاع عن النفس لأنه على أراضٍ محتلة .

كما عبرت القيادة الروسية عن رفضها لأسلوب المؤامرات حيث ألمح الرئيس الروسى فى أكثر من موقف عن عدم تقبله للقول بأن الأحداث كانت مفاجأة، أو رسم سيناريوهات الحل على حساب دول أخرى مثل مصر، مؤكدا التضامن الكامل مع مصر فى رفضها لحل المشكلة القائمة على حساب جانب من أراضيها مهما كانت المغريات التى يجرى التلويح بها من وقت لآخر خلف الأروقة الرسمية.

◄ الإعلام الروسي
بصفتى أحد المتابعين عن قرب للإعلام الروسى ومعرفتى الشخصية بالكثيرين بل وغالبية الإعلاميين والصحفيين الروس لاحظت أن عددا كبيرا منهم وقت وقوع الأحداث كان متواجدا فى إسرائيل سواء اتصالا بالأعياد او الاحتفالات التى يجرى تنظيمها فى إسرائيل والتى كان أحدها قرب مسرح الأحداث، لذلك كان من المهم جدا متابعة كتابات هؤلاء التى جاءت من بؤرة الأحداث مباشرة حيث لاحظت فى مجملها طابع «الصدمة والذهول»، وقد بدأت أولى هذه الكتابات تظهر على صورة الاستغاثة مع استعراض صورة ما يجرى وكأن عناصر حماس هذه تمثل جيشا جرارا يجتاح إسرائيل، وحاول الكثير من وسائل الإعلام الروسية تحاول نقل الصورة سواء بشكل مباشر أو على لسان من يدعون أنهم شهود عيان لبيان الوحشية التى يتعرض لها المدنيون الإسرائيليون وعلى الأخص الأطفال والنساء والعجائز، ولكن مع بدء العمليات الإسرائيلية لم يجدوا بداً من محاولة نقل هذه الصورة عبر شاشات روسيا اليوم وعبر مختلف القنوات العربية وعبر وسائل التواصل الاجتماعى بحيث يمكن للمواطن البسيط الاطلاع عليها بكل بساطة وبالتالى ستجد وسائل الإعلام التى تتجاهل حقيقة ما يجرى نفسها فى موقف حرج أمام متابعيها الذين بدأوا يتساءلون عن السبب فى تسليط الضوء على جانب واحد فقط من الأحداث.

وذهبت بعض وسائل الإعلام بعيدا جدا فى تصوراتها لحقيقة ما يجرى سواء كونها ضمن مخطط غربى لإجبار الفلسطينيين على النزوح والهجرة ولكن ليس إلى مصر كما يظن البعض وإنما إلى الغرب الذى شاخت شعوبه ويحتاج بشدة إلى الدماء الجديدة الشابة ، وهذا السيناريو لا يختلف كثيرا عمن تحدثوا عن قرب نهاية الدولة الإسرائيلية التى لم يعد شعبها يشعر بأى نوع من الأمان واستدلوا على ذلك بوجود إرهاصات لنزوح عكسى لسكان إسرائيل إلى مواطنهم الأصلية أو على الأقل أوروبا وأمريكا.

كما بدا الإعلام الروسي يروج بشدة لنظرية المؤامرة الغربية التى ألمح إليها الرئيس الروسى خاصة أن الموقف من النزاع فى أوكرانيا ومقاطعة الغرب لروسيا أوقعته فى أزمات اقتصادية شديدة وهو ما تطلب تفجير نزاع وأحداث دموية تعيد تشغيل المصانع العسكرية الغربية بكامل طاقتها من جديد.

ولم يفت البعض الحديث عن الموقف الأمريكى أو بالأحرى موقف الرئيس الأمريكى بايدن الذى لم يتردد عن الدفع بحاملات الطائرات المدججة بالسلاح إلى السواحل الإسرائيلية.

◄ محاولة للتقييم
ربما تسرع البعض فى أعقاب أحداث السابع من أكتوبر بوصف الموقف الروسى بالميوعة بسبب طابعه الحيادى المبدئى إلا أن ما استتبعه من أحداث أكد أن تصريحات الرئيس الروسى فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرجى لافروف والتمثيل الدائم لروسيا فى الأمم المتحدة كان لها مفعول أكثر قوة من أى سلاح حيث أجهضت بشدة كافة المحاولات والخطط المغرضة الغربية ، بل أستطيع إن أقول بكل ثقة أن موقف القيادة الروسية من الأحداث الأخيرة أدى إلى فشل وإجهاض كافة المخططات التى نفذت على مدار العديد من العقود الأخيرة لتغيير نظرة الرأى العام الدولى للقضية الفلسطينية والعمل بقوة على تناسى هذه القضية وطمس كافة ملامحها.

الأكثر من ذلك هو ذلك التغيير الذى طرأ على موقف الإعلام الروسي الذى اعترف بأن الإمعان على مدار العقود الأخيرة فى إضفاء الطابع الدينى على النزاع جعل كل مسلم فى العالم طرفا فيه وهو ما أفقد إسرائيل محاور قوتها السابقة والتى كانت تتمثل فى تأثير الأوساط اليهودية والصهيونية على مراكز صنع القرار فى مختلف أنحاء العالم وأصبحت الجاليات الإسلامية أيضا تؤثر على ذلك وتتفاعل معه والسبب فى ذلك كان هو إسرائيل ذاتها.

وكان من الواضح منذ بداية الأحداث أنه كلما حاولت إسرائيل والولايات المتحدة ومن ورائها الغرب دفع اتجاه تفسير الأحداث فى وجهة معينة تتصل بالإرهاب والعنف الفلسطينى تخرج القيادة الروسية لتفشل هذه المحاولة وتظهر للجميع أن الضحية الأولى فى هذه الأحداث وما سبقها على مدار عشرات السنوات هو الشعب الفلسطينى وأن السبب فى ذلك هو التعنت الإسرائيلى والغربى فى تجاهل حقوق الفلسطينيين والتأكيد على أنه لا حل سوى التسوية وإقامة الدولة الفلسطينية.

وربما يتعين اليوم على الدول العربية والإسلامية أن تقتدى بالموقف المصرى الذى يحرص بشكل كبير على التنسيق مع الجانب الروسى واستثمار تطوره فى الدفع فى ذات الاتجاه الذى يطالب به الرئيس الروسى وهو تكثيف الجهود لتسوية القضية بشكل عادل ومشروع إذا كان الهدف فعلا هو العيش فى سلام وأمن للجميع وليس لطرف على حساب أطراف أخرى.