«درس مبكر».. قصة قصيرة للكاتب الهادي نصيرة

 الهادي نصيرة
الهادي نصيرة

كنت أسير وحيدا، في صباح ذلك اليوم الربيعي، متجها إلى المدرسة، لألتحق بأقراني، تلاميذ السنة الرابعة بالمرحلة الابتدائية.

 كنت أسلك طريقي، مطمئن البال، لا شيء يشغلني غير آلة الحلاقة التي كنت أحملها في محفظتي بغية تسليمها إلى المعلم الذي أوصاني بجلبها.

" اِسمعوني جيدا ، يا أطفال! غدا، في حصة القراءة، سنقرأ نص "الحلاق".. سنكون في حاجة إلى وسائل إيضاح حول هذا الموضوع.. من منكم يستطيع أن يوافينا بإحدى تلك الوسائل؟ "

أذكر أنني سارعت برفع أصبعي، معلنا عن استعدادي لتلبية الطلب:

"_سيدي ، لدينا بالمنزل، آلة جديدة لحلاقة الشعر. يمكنني جلبها!

_ حسنا، عليك بذلك!

أضاف آخر:" سيدي، أنا سآتي بمقص كبير! "

_ مهم جدا. هذه أيضا وسيلة جيدة."

أردف ثالث:

_"سيدي! بإمكاني الاتيان بصورة كبيرة لحلاق، سيتولى أخي الأكبر رسمها".

_ ممتاز. ننتظر منك أن تأتينا بتلك الصورة! "

وتواصلت الاقتراحات، هكذا، تباعا..

 طبعا، لا أحد من تلاميذ الفصل، بإمكانه أن يتأخر عن تلبية طلبات المعلم لأن الجميع يعتبرها أوامر لا ترد.. كما أن الكل يقدر تلك المنزلة الرفيعة التي يحظى بها المربون، آنذاك، في مجتمع كان يرى في المدرسة تلك القلعة السامقة، التي تعلو بعلمها علوا كبيرا، وتسمو بمعارفها سموا منيفا..

صرت على مشارف الوادي، الذي يتوسط المسافة الفاصلة بين المنزل والمدرسة، حين التحق بي شاب، نحيف، قمحي الوجه، متسع العينين، بارز الأنف والوجنتين، قد يكون بلغ من العمر عشرين سنة أو أكثر بقليل، يمتطي أتانا ضخمة الجسم، طويلة الأرجل..

لقد بدا مستعجلا، يستحث بهيمته على السير، بلا توقف، لبلوغ المكان الذي كان يقصده، بأسرع وقت ممكن.. غير أنه خفض من سرعته، ما إن اقترب مني، ليسلم علي وينبئني، دون تلعثم في الكلام، أنه كان في زيارة خاله القاطن غير بعيد عن منزلنا، مؤكدا أن لديه قرابة تربطه بأهلي، وأن جدته فلانة ابنة فلان الفلاني، وأخوها فلان وأختها فلانة..

"الكل يعرفها، فهي ابنة العرش أبا عن جد، لكنها انتقلت منذ مدة طويلة، للسكن، هناك، في تلك المنطقة الجبلية، حيث أنا ذاهب ،الآن ، بعد زيارتي لخالي..."

 وما لبث، بعد تلك الديباجة، والثرثرة المنسابة دون توقف، أن طلب مني مده بمحفظتي، مبررا طلبه ذاك، بأنه يريد أن يريحني قليلا من مشقة حملها..

لا أدري، حقيقة، كيف أنني لم أستطع منعه من ذلك، رغم أنني لم أكن مرتاحا لطلبه، وانتهيت، بعد إلحاحه الشديد، إلى تسليمه المحفظة، فما كان منه إلا أن التقطها، وفتحها بلهفة، مقلبا ما بداخلها، كمن يبحث عن شيء ثمين، ثم ما لبث أن ألقى بها في الهواء، وقد تطاير ما في باطنها من كتب، وكراسات، وأوراق، وأقلام..

بقيت أدور في كل اتجاه، منشغلا بجمع ما تناثر من محفظتي المبعثرة، إلى ان تفطنت لاختفاء الآلة..

 وحين رفعت بصري في اتجاه ذلك الشاب اللعين، تراءى لي، وهو يبتعد، وقد أطلق العنان لحمارته، لتمضي مسرعة، تنقر بحوافرها الصلبة رمال الوادي، وبات من الصعب علي، اللحاق بذلك الهارب، لاسترداد ما سرقه مني.. لقد رسم لي، ذاك الذي تعرضت له في ذلك اليوم، صورة كنت أجهلها، عن أننا قد نصادف في الدنيا، أقنعة تخفي وجوها غير مريحة، وجانبها لا يؤتمن..

دخلت ساحة المدرسة، مرهقا، وقد اغرورقت عيناي المتعبتان بالدموع، وعلا الفتور ملامح وجهي المخطوف..

 وحين رآني أخي الأكبر على ذلك الحال، هرع يسألني عما جرى..

 وفور علمه بما حدث، قرر المعلم أن يتجه، بمرافقة أخي، إلى مقر إقامة ذلك الشاب، والوصول إليها، مهما بعدت المسافة، لاستعادة تلك الأداة التي اختطفها..

 اِنخفضت درجة إحساسي بالضعف، وشعرت أن هناك من يساندني، وأنني لم أعد وحيدا في مواجهة ذلك اللص المعتدي، لكنني أدركت، في الآن ذاته، أنني أخطأت حين نسيت استشارة والدي قبل أن آخذ آلة الحلاقة..

 خطأ، تتبعه في المساء، صفعة قاسية، قوية، وآثار خطوط حمراء، على إحدى وجنتي، وملامح أبي الصارمة، ونظراته المصوبة إلى بحدة لم أعهدها، كانت لي بمثابة درس لم أستطع نسيانه أبدا..