«محمود درويش».. صوت الجُرح الفلسطينى

محمود درويش
محمود درويش

لطالما دوى صوته المبدع فى الآفاق صارخا.. مجسدا  عمق الجرح الذى سكن كيان أمته، وكم  صدحت قصائده تحكى أوجاع وطن ضائع، وشعب مكلوم انتزعت منه هدأته، واختطف منه أمنه وسلامه، وفى هذه الآونة الحرجة التى يمر بها الشعب الفلسطينى فى غزة، والضفة، وسائر الأراضى المحتلة، تفتقد الآفاق صوت الشاعر الفذ الراحل محمود درويش، وكما يقولون: «فى الليلة الظلماء يفتقد البدر، كم نشعر الآن بالحاجة إلى صوت ذلك الشاعر الفذ الراحل.. صوت الألم الفلسطينى، والناقد البارز د. رضا عطية يحاول فى السطور التالية تذكيرنا بمحمود درويش الذى غاب عن عالمنا إثر جراح القلب.

ربما لم ينل شاعر عربى حظ «محمود درويش» الشعرى، بسبب ارتباط اسمه بقضية بلاده، فلسطين، فأصبح درويش لسانًا شعريًّا ناطقًا باسم القضية الفلسطينية، خصوصًا بعد نكسة يونيو 67، حين أصبح الجرح العربى أكثر تمددًا، صحيح أنَّ «محمود درويش» هضم فى خلاياه الشعرية شعراء آخرين أبرزهم بالطبع «نزار قبانى» الذى تَأثَّر به «درويش» كثيرًا فى تشكيلاته الموسيقية وأسلوبه الشعرى إلى حدٍ يقترب من تقليده الخالص فى بداياته، وكذلك أحمد عبد المعطى حجازى، وأمل دنقل.. «محمود درويش» هو الشاعر الجماهيرى الذى حَقَّق المعادلة الصعبة؛ فأمسك بكفيه بخيوط اللعبة الشعرية، فجمع شعره بين «الأيدلوجى»، وجماليات اللغة، وبين الوضوح وبساطة اللغة مع العمق، وكثافة المقومات الشعرية، مما جعل شعر «درويش» مقروءًا من كافة أطياف المتلقين مهما تدرجوا فى طبقية ذائقتهم، فبات شعره بستانًا عامرًا بمتنوع من الثمرات الجمالية يجد فيه كل قارئ ما يشتهى مهما كان تشكيل وعيه الجمالى ومهما تمايز عن غيره من القُراء.

اقرأ ايضاً |غضب «فيروز» الساطع يلهب صمود المقاومة

 كان «درويش» مؤمنًا بدور الشعر الفاعل وبضرورة أن يتخذ الشعر من الوسائل ما يجعله جماهيريًّا ومنتشرًا بين الناس، فيقول:

«قصائدنا بلا لون/ بلا طعم بلا صوت/ إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت/ وإن لم يفهم البسطاء معانيها/ فأولى أن نذريها/ ونخلد نحن للصمت».. كانت الدعوة إلى حيوية الشعر وشحنه بالصور الفنية الحية من ناحية التشكيل الصياغى للقصيدة، وكذلك بساطتها ويسر معانيها هى عماد استراتيجية «درويش» الشعرية التى نشدت للشعر الانتشار والتداولية، مما مَكَّنه من بث إشارات التنوير بين الناس (من بيت لبيت) عبر مصابيحه الجمالية، وتبدو تلك الدعوة امتدادًا لدعوة سابقة أطلقها رائد من رواد الحداثة الشعرية العربية «أحمد عبد المعطى حجازي» فى قصيدته «لمن نغنى» التى نظمها عام  1957:

(كلماتنا مصلوبة فوق الورق/ لما تزل طينًا ضريرًا، ليس فى جنبيه روحْ/ وأنا أريد لها الحياة/ وأنا أريد لها الحياة على الشفاة/ تمضى بها من شفةٍ إلى شفةٍ، فتولد من جديدْ!)

ف«درويش» شأنه شأن «حجازى»، وغيرهما من شعراء الحداثة العربية التى سعت إلى سرقة نور الإبداع الجمالى من السماء، وبثها فى الأرض، فغاية الشعر الحياة والتداولية، حتى ينهض الشعر بدوره التنويرى فى بث الروح فى وعى الأمم وتخليق وجدانها وصياغة وعيها الجمالى.

آمن «درويش» بأن التلقى والاستيعاب الجماهيرى للشعر من آيات الجمال، فقد كان همه الوصول برسالته الجمالية إلى مساحة عريضة من المتلقين، لذا جمع «درويش» فى مدونته الشعرية بين الخاص والعام، فحمل شعره قضية بلاده «فلسطين» السليبة، فنزف الجرح الفلسطينى دمًا فى قصيدة «درويش» الذى جسد معاناة شعبه الرازح تحت نيران الاحتلال الإسرائيلى الصهيونى:

(سجل/ أنا عربي/ سلبت كروم أجدادى/ وأرضًا كنت أفلحها/ أنا وجميع أولادى/ ولم تترك لنا ولكل أحفادى/ سوى هذى الصخور/ فهل ستأخذها/ حكومتكم كما قيلا).

يحمل الفعل الطلبى الآمر (سجل) ومتعلقه (أنا عربي) الذى يمثل بطاقة الهوية الذاتية والعامة، فذاتية «درويش» ذاتية تهضم العموم، لتكون ذاتية تنوب عن غيرها من الذوات فهى ذات تمثل فى حضورها الفردى، ووجودها «الأناوى» حضورًا جمعيًّا، لأنها تمثل الوجود العربى المصطدم بالكيان الصهيونى فى الدولة العبرية التى قامت على استلاب الدولة العربية فى فلسطين، والسطو على مقدراتها، فتكون (الأرض) بما تحمله للعربى من ميراث ثقافى يربطها بالعرض محور الصراع العربى الإسرائيلي، غير أن صوت الذات الشاعرة يحفر بجذور انتمائه، وارتباطه بأرضه فى تربة تاريخية تبدأ من الأجداد حتى تمتد شجرة الوجود لتخرج بفروع الأبناء والأحفاد، فهو حضور ممتد عرضيًّا ليشمل ذوات الكل، ورأسيًا ليشمل الأجيال المتعاقبة من الأجداد حتى الأحفاد، فحضور الذات فى شعر «درويش» هو حضور المفرد بصيغة الجمع، كما تعمل الصياغة الشعرية على جلاء ملامح الشخصية العربية الفلسطينية المدافعة عن حقها فى أرضها المغتصبة التى تمثل قاعدة التجذر لهويتها الوطنية، ثمة ارتباط بين الأرض والإنسان فى شعر «درويش» كما فى قصيدة «طباق»:

(هذه الأرض أصغر من دم أبنائها/ الواقفين على عتبات القيامة مثل/ القرابين، هل هذه الأرض حقًا/ مباركة أم معمدةٌ/ بدمٍ،/ ودمٍ،/ ودمٍ،/ لا تجففه الصلوات ولا الرملُ).. فى تلك الرؤية لمكانة الأرض تُقاس مساحة الأرض بالدم والتضحيات المبذولة فى سبيل استعادتها، كما تصبغ الصياغة الشعرية على صورها الغنية ألوانًا من المقدس و«الميثولوجى»، فتربط الجزئى بالكلى، والدنيوى بالقدسي، والإنسانى بالشيئى الرمزى؛ فالناس قرابين تُقدم للفداء، والتكفير، ويكون الدم مهرًا لتلك الأرض، ومادة لتعميدها، ولكنها باقية الأثر، فالدم لا يمحى أثره، ولا تُبطل فاعليته.