إبداعات من طمي النيل| «الخزف المصري».. حداثة تستلهم التراث

الخزف المصري الحديث
الخزف المصري الحديث

■ كتب: رشيد غمري

سبعة آلاف عام هى عمر الفخار المصرى الذى تخبرنا آثاره عن الحضارات المبكرة فى «البدارى» و«نقادة»، التى استخدمت غــرين النيل لصنع الأوانى والاحتياجات المعيشية والدينيةـ عاكسة التطور التقنى، والأفكار والمعتقدات. وقد تلاقح الفن مع ما أتت به حضارات اليونان والرومان، ثم تبلور منه نمط إسلامى مصري رفيع فى الفسطاط والبهنسا. وبالتوازى مع المنتجات الراقية، انتشرت أخرى شعبية أنتجتها عشرات القرى، وارتبط بعضها بالعادات والتقاليد مثل إبريق وقلة السبوع للمولود.

■ أعمال للخزاف إبراهيم سعيد مستوحاة من التراث الإسلامي

وتنوعت تقنيات التلوين والنقش والزخرفة من طلاء بالأكاسيد إلى الصقل بـ«الجليز»، والطلاء الفاخر بالبريق المعـدنى بتقنيــات الاخــتزال. هـــذا الـتراث الطــويل والمتعــدد مثّل ثـروة كبيرة كانت فى انتظار من يعيد استلهامها، ويضعها على مسار التطور الفنى والتعبير الإبداعى.

■ عمل للفنان إبراهيم سعيد يستوحي شباك القلة

◄ شيخ الخزافين
الفنان سعيد الصدر هو الأب المؤسس لفن الخزف المصري الحديث، وشيخ الخزافين. وهو الذى أخرجه من إطاره الحرفى المتوارث، ومنحه روح الإبداع الفنى وأعاد اكتشاف جمــالياتـه وقدراته التعبيرية.

■ للفنان محمد مندور

وقد أفاده الحــراك الفكرى حول تمصـير الفنون الذى كان على أشده وقـتها. وكان محظوظا لأنه بعد نشأته فى حى الجمالية المشبع بالتراث، وتلقيه تعليمه الفنى فى مصر، استكمل دراساته بمعهد «كمبرويل» فى لندن، على يد مجدد الخزف الإنجليزى المعاصر «برنارد ليتش»، الذى كان قد بدأ دراساته للخزف فى الشرق الأقصى.

■ مجموعة من أعمال الفنان نبيل درويش

وهكذا أتيح لسعيد الصدر أن يجمع خلاصات عديدة فى وقت مبكر، ما أهله للدور الذى قام به فى مصر لاحقا. و«الصدر» هو مؤسس قسم الخزف فى كلية الفنون التطبيقية، ومركز الخزف بالفسطاط، كما مثل مصر فى الأكاديمية الدولية لفن الخزف بسويسرا.

■ من إبداعات محمد مندور

وله عدد كبير من الكتب حول فنون الخزف وتاريخه. وهو يعترف بفضل أستاذه الإنجليزى فى توجيهه إلى استلهام جماليات الخزف الإسلامى فى مراحل ما قبل الاضمحلال العثمانى. وحصل «الصدر» على الاعتراف الدولى بخزفياته المستوحاة من التراث المصرى، وحصد جوائز عالمية فى معارض «كان» بفرنسا عام 52، و«براغ» عام 62، وغيرها.

■ من أعمال محمد مندور المستوحاة من التراث الإسلامي

كما قام بتدريس فنون خزف الشرق الأوسط فــى إحدى الجامعات الأسـترالية خلال السبعينيات. ومن عـباءته خرج جيل حمل على عاتقه تطوير الفن، ومنهم نبيــل درويـش، وجمـــال حنفى، وجمال عبود، ومحيى الدين حسين، ومحمد طه حسين، وقدرى محمد أحمد، وغيرهم.  

■ من أعمال الفنان محيي الدين حسين الخزفية

◄ ميراث الروح
تلقى تلاميذ سعيد الصدر رسالته فى استلهام التراث، والانفتاح على التقنيات الحديثة، والتجريب الشخصى المتواصل. وبرع كلٌ من تلاميذه فى أحد تلك الجوانب دون إغفال الأخرى. فاختار الخزاف «محيى الدين حسين» التراث الشعبى، وحياة الريف، ملهما لأعماله، التى تضم مكتبة الإسكندرية معرضا لبعضها، من الأوانى إلى النحت الخزفى. ويرجع له الفضل فى تأسيس «بينالى القاهرة الدولى للخزف». 

■ من أعمال الفنان سعيد الصدر

أما الفنان جمال حنفى، فنهل من تراث الأواني الممتد، واهتم بالعلاقات، والنسب فى تكوينات تجمع أكثر من إناء، وله تجارب مهمة فى فن «الماجوليكا» أى التصوير على الخزف. كما أجاد التعامل الإبداعى مع الكتلة والفراغ، والملمـس واللون، لإعطــاء أبعــاد جمالية وتعبيرية. وكان قد درس فنون الخزف والبورسلين في فلورنسـا بإيطـالـيـا وحصـل على الدكتوراه هناك، ما أكسبه العديد من المهارات التقنية. 

■ نحت خزفي للفنانة منى غريب

◄ اقرأ أيضًا | محافظة الجيزة: غداً.. افتتاح معرض الحرف التراثية والمنتجات اليدوية

الفنان محمد طه حسين، كانت تجربته موضوعا لرسالة دكتوراه للباحثة الألمانية «دجمار تسينج» تحت عنوان «محمد طه حسين حوار بين الشرق والغرب» عام 2003. وهو الذى نشأ فى حى الحسين بأجوائه التراثية والروحية، ولــه مجموعات خزفية شهيرة مثل تجربته مع القط الذى حوله إلى كائن أسطورى، مستلهما تراث الخرافة الشعبية، والأسطورة الفرعونية. كما مزج بين الخزف والنحت الحجرى. 

◄ درويش الساحر
الفنان نبيل درويش واحد من عباقرة فن الخزف الذين يصعب تكرارهم. وقد ترك عددا كبيرا من الأعمال يضمها متحفه بالحرانية، وبه أيضا فرن بناه له أستاذه سعيد الصدر. كان درويش مجربا بلا حدود، فأضاف 18 ابتكارا لتقنيات فن الخزف، وأسرارا مازالت ألغازا لم تحل. من مكتشفاته تقنيات المصريين القدماء المتعلقة بالرقاب السوداء لفخاريات ما قبل التاريخ. كما ابتكر خلطات مع الطين، تنتج تأثيرات خاصة فى درجات حرارة معينة، يطوع خلالها الطبيعة، والكيمياء، لينتج لوحات فنية مبهرة فى تدرجاتها. وتبدو أعماله كقطع من الطبيعية. ووفقا لدراسة الدكتورة هبة الهوارى عن الفنان، فقد استلهم التراث الشعبى، واستخدم سطوح أوانيه كلوحات ساهم فى رسمها النار والدخان. ومارس اللعب الحر بالخواص الفيزيائية للمواد. وعلى قدر فرادة وغرابة النتائج التى تظهر فى أعماله، إلا أنها تبدو طبيعية ووقورة. وتتميز أعماله بنسب ذات أبعاد ذهبية تحيل إلى حالة من التأمل الروحانى، كما تتماوج الألوان على أسطحها بطريقة ودرجات وتداخلات مدهشة. وقد اعتمد فى كل ذلك على الطين والمواد المصرية. 

◄ إبداع متواصل
الفنانة «زينب سالم» حققت نجاحات متوالية على مستوى تجارب تشكيل الخامة، خلال العقود الأخيرة. وهى تبدو وكأنها من صنع الطبيعة، حيث منحت الطين الفرصة ليخرج إمكاناته. تبدو بعض أعمالها كمتحجرات أشجار، ونخيل، وأحيانا كأرغفة من الصلصال، أو تشكيلات منتزعة من تكوين طبيعى بالصحراء، بملمس الكلس والرمال. وينساب أحيانا بدقة شعيرات جذر أو خيوط نسيج. التراث فى أعمالها هو الطبيعة والبيئة المصرية. 

أما الخزاف «محمد مندور» فقد نشأ فى منطقة الفسطاط بتراثها الثرى من فنون الفخار والخزف. وبالإضافة لعمله المبكر فى الحرفة، التحق بأتيليه الفنانين صفية حلمى ومحمد هجرس فى حلوان، فتعلم فنون السيراميك والنحت. ويقوم الفنان بتجارب مثيرة لمعالجة السطح، من خلال الطلاء بالأكاسيد وحرقها مرة بعد مرة، للحصول على طبقات من الألوان التى تتقشر عن بعضها البعض متدرجة من الأبيض إلى الأخضر والرمادى وحتى الأسود. كما يستخدم الزخارف ذات الأصل الإسلامى والمستوحاة من فن الخط العربى. ولم يغب عن تجربته التراث الشعبى وما يرتبط منه بالعادات المتوارثة، ولا الأوانى الفرعونية الكانوبية. 

◄ تجريب بلا حدود
الخزاف إبراهيم سعيد هو الآخر نشأ فى الفسطاط وعمل مع والده فى صنع الأوانى الفخارية، فتعلم الحرفة وتشبع بتراثها. الآن تقتنى المتاحف العالمية أعماله، وتقام له المعارض فى الشرق والغرب، وأعماله معجونة بالتراث. للفنان تجربة مهمة فى استلهام شباك القُلة من التراث الإسلامى، ووضعه فى إطار حداثى. وهو فن تطور منذ الحقبة الطولونية إلى أواخر الحقبة المملوكية. ويتعلق بالقرص الدائرى الذى يفصل بدن القلة عن عنقها من الداخل، وكان الغرض منه حماية الماء والسماح بمروره ببطء، عبر زخارف مفرغة، تنوعت من أشكال هندسية إلى رسوم نباتية وحيوانية وآدمية. وقد استوحاها الفنان، واضعا إياها فى إطار حداثى. كما يستلهم الأشكال الخزفية التراثية التى يرجع بعضها إلى عصور ما قبل التاريخ. 

أما الخزاف خالد سراج فيحلق فى أجواء تجريب منفتحة على الإبداعات العالمية، فيستخدم تقنيات من اليابان شرقا وأساليب من الغرب، دون أن يفقد مصريته، بل يعيد التواصل مع التراث العميق بحس إنسانى. تظهر أسماء معارضة وأعماله ولعه بالتراث المصرى مثل «ماعت تتلون» و«جب»، و«توت» و«التل الأزلى»، و«بين القصرين» وغيرها. كما قدم تجارب مشتركة مع الفنانة الهنجارية «أنيتا توت».

◄ مبدعات الخزف
فى معرض أقيم عام 2019 بمركز الجزيرة للفنون شارك 26 فنانا من أجيال واتجاهات مختلفة فى معرض لفن «الطبق»، حاول بعضها التحليق فى آفاق التجريب، وعكس بعضها رؤية معاصرة للتراث. وكان ضمنها تجارب لفنانات حققن نجاحا كبيرا فى مجال الخزف. قدمت الفنانة رباب على وهبة مجموعة أطباق من البورسلين الملون حملت اسم «زهور الجنة». وشاركت الفنانة أمانى فوزى بثلاث مجموعات من الأطباق فى تكوين واحد، وهى من الفنانات اللاتى شاركن بأعمالهن فى معارض دولية. وقدمت الفنانة صفاء محمد عطية طبقا مميزا بلون التركواز.

الحضور النسائى واضح سواء على مستوى المعارض الجماعية أو الفردية لفن الخزف. آخرها معرض الفنانة منى غريب لأعمالها من فن النحت الخزفى بعنوان «أنا مصرية» الذى شهدته قاعة الباب بدار الأوبرا، وأظهرت من خلاله إمكانات كبيرة لهذا الفن فى التعبير عن القضايا المختلفة. وعكست أعمالها موضوعات من التراث المصرى الفرعونى والشعبى.