قلب وقلم

عبد الهادي عباس يكتب: كأننا هنا.. أو هناك!

عبد الهادي عباس
عبد الهادي عباس

تتشابه الأيام وتتشاكل الليالي حتى يبدو الماضي حاضرًا والأمس غدًا، ويبقى الاختلاف فقط في نوع المأساة وعدد الضحايا؛ في السنوات الأخيرة كنتُ أمشي في الطريق أراقب الناس والحيوانات معًا، فأتعجّب من خمول الناس واستكانتهم كأنهم سُكارى وما هم بسُكارى؛ وأتعجّب من همود الكلاب الضّالة فلا أراها تنبح المارة كعادتها أو تتهارش مع بعضها، وإنما هي بين نائمة ومنبطحة تنزجر لكل طفل صغير وتفرّ منه هاربة! 

في وجوه الناس شحوبٌ وإنهاكٌ عاينته وعانيتُ منه كثيرًا؛ كرجلٍ أرق ليله فلم ينم، فهو في عذاب، ثم إذا أدركه الصباح وقف مجبورًا في قائظة النهار لتكمل الشمس سطر صفحات عذابه المكتوب في طوايا القدر.

بالليل تبكي أختي لمأساة أهلنا في غزّة ثم تشتري لزوجها ساعة بثلاثة آلاف جنيه بمناسبة عيد ميلاده! وفي الصباح التالي يتصل بي ابن عمي يبكي حاله ويشتكي سرقة تلفونه الثمين للمرة الثانية عند ركوبه الميكروباص؛ وبعد الظهر أنتبه إلى تكدس رصيف محطة المترو بالمشاهدين حول حلبة الملاكمة بين فتاتين تتجاوزان الخطوط الحمراء في العراك النسوي: لكمًا وشتمًا وتقطيعًا للأعراض والأغراض؛ فأفرّ من هذا العنف الذي لا أطيقه إلى المترو الذي يبدو خادعًا في هدوئه الشكلي، حتى إذا تكدَّس في محطة أنور السادات يشتبك عجوز واقف مع شاب جالس، يُعاتبه الأول وينهره وينعته بسوء التربية، فيردّ الثاني عليه بصلف أرعن وغرور أملته عليه البرندات المهرّبة التي يرتديها، فينتصر الناس للعجوز، ويُصبح المترو حلبة أخرى للصراخ والصراع؛ ولا أجد مهربًا سوى النزول وانتظار المترو التالي أملًا في لحظات من السكون النادر!

عند عتبة البيت: تستقبلني زوجتي بلائحة نائحة عن المنتجات المُقاطعة، وأننا لا يُمكن أن نأكل أو نشرب من دماء إخواننا الفلسطينيين؛ ثم تمدّ يدها بلائحة أخرى للبدائل المتاحة من المنتجات التي نستخدمها، مُشددة أن البدائل تضرّ الاحتلال، وهي أيضًا أكثر توفيرًا ودعمًا للصناعة الوطنية؛ فأومئ بالموافقة التامة، فلن أتحمل النقاش مع زوجتي التي تشترك في عشرات المجموعات للأمهات المناضلات للاحتلال، وأكلات السعرات العالية، على الفيس بوك؛ فلا أعتقد أن هناك أسوأ من مُعارضة فكرة اتفقت عليها النساء جميعًا؛ هكذا تقول قوانين السلامة الزوجية!

لم يهدأ شهيقي وزفيري حتى احتضنني ابني بلهفة غير مألوفة ليسألني نجدته في توفير قصيدة عن فلسطين ليُلقيها في الإذاعة الصباحية؛ فأجيبه من فوري وبلهجة العارف الخبير وبصوت يحمل حماسة المجاهد بلسانه: أخي جاوز الظالمون المدى/ فحق الجهاد وحق الفدا- أنتركهم يغصبون العروبة/ مجد الأبوة والسؤددا- وليسوا بغير صليل السيوف/ يُجيبون صوتًا لنا أو صدى؛ بالطبع قصيدة فلسطين للشاعر علي محمود طه، التي غناها عمّنا الموسيقار محمد عبد الوهاب. فيقول: اكتبها لي! ثم يعترض على صعوبة كلماتها ويتحجج بأنها لا تليق بطلاب المرحلة الابتدائية؛ وأنه ليس من الضروري أن يكون الناس كلهم دراعمة أو يفهمون في الشعر! 

الطلاب الآن يزدادون لماضة في كل شيء وأي شيء؛ غير أنهم، بلا شك، أكثر ذكاء وإدراكًا للحياة من أجيالنا السالفة؛ يسألون عن أشياء لم يكن لأكثرنا عبقرية أن يُفكر فيها إلا في المرحلة الجامعية؛ وربما يكون انفجار بحار الأسئلة عن الأعداء والأصدقاء من فوائد التضحيات التي يُقدمها شهداء فلسطين؛ يسأل الصغار والكبار الآن عن كل شيء يحدث هنا وهناك، عن حاملات الطائرات الأمريكية والغربية وعلاقتها بكيان يحتل أرضنا؛ عن العرب ذوي اللسان الواحد والتاريخ الواحد والجامعة التي لا تجمع؛ عن دور مصر الكبيرة وتاريخها الممتدّ من التضحية والفداء، وكيف تقف شامخة لتحمي عرينها من الذئاب والكلاب؛ أصبحنا نرى إقبالًا على فيديوهات الرئيس السادات وكيف كان يُعالج المواقف بخبرة الجرّاح الماهر؛ حربًا وسلامًا، ومواجهة لسفاهات الصغار.

في هذه الأيام يزداد الاكتئاب النفسي بانكشاف الوهن العربي؛ وترتفع المعنويات بوجود "المحروسة" وقائدها؛ ترتفع الرؤوس فخرًا بجيش "الكنانة"، خير أجناد الأرض.. وقد تستمر هذه الحالة البين بين إلى أن نُدرك: مَن نحن؟ وماذا نريد؟ وبماذا يجب أن نُضحّي إن أردنا الحياة؟ وهل نحن حقًّا هناك أم أننا هنا؟ أم أننا هناك وندّعي أننا هنا؟!