حديث الأسبوع

هكـذا تسرق الثـروة فـى العالـم

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

عبدالله البقالى

موازاة مع تزايد انعدام المساواة بين الشعوب والأفراد فى الاستفادة من الثروة العالمية، التى تتباعد فيها المساحات بين أقلية قليلة تستحوذ على الجزء الأكبر من كعكة الثراء العالمي، وأغلبية ساحقة من شعوب العالم تواجه تحديات كبيرة وضخمة من أجل الحصول على الحد الأدنى من نصيبها، وبعض من سكان العالم تقتصر استفادتهم على بعض الفتات الذى لا يكفى لضمان الحد الأدنى من العيش الكريم. موازاة مع استمرار هذا التباعد، ترتفع أصوات كثيرة من مختلف مناطق العالم تنبه إلى الخطورة البالغة التى يكتسبها انعدام العدل والمساواة بين البشر فى الاستفادة مما تتيحه الحياة البشرية والطبيعة من ثراء عالمي، وتلح فى المطالبة بإيجاد صيغ وحلول تضمن الولوج إلى الحق فى هذه الاستفادة.


الدراسة الحديثة التى نشرها إلى العموم المرصد الأوروبى للضرائب، قبل أيام قليلة من اليوم، تكشف عن مناطق ظل مثيرة ومتشعبة فى صدد هذه القضية الهامة، حينما سلط الأضواء الكاشفة على أحد أهم المسالك التى من شأنها تخفيض نسب التفاوتات فى الاستفادة من الثروة العالمية، بين الأثرياء الكبار والفقراء الصغار، ويتعلق الأمر بالتحديد، بوضع حد للتهرب الضريبى من طرف الأثرياء الذين يتفننون فى إبداع أشكال هذا التهرب.
فقد كشفت الدراسة التى أعدها مائة باحث ينتمون إلى مختلف دول العالم، واحتضنتها كلية باريس للاقتصاد، أن الشركات متعددة الجنسيات تقوم بتحويل عائداتها المالية إلى  الجنات الضريبية، حارمة الدول من مداخيل جبائية مهمة من شأنها المساهمة  فى تسريع وتيرة التنمية فى العالم. وأكدت الدراسة أن المبلغ الإجمالى المنفلت من التضريب وصل فى سنة 2022 إلى ألف مليار دولار (تريليون دولار)، و هو مبلغ مهول يعادل القيمة الإجمالية للناتج الداخلى الخام لدولتين من حجم الدانمارك و بلجيكا مجتمعتين.
وقال معدو الدراسة إن هناك ما اعتبروه جيدا، وسيئا، وسيئا جدا فى رصدهم لهذه القضية. وهكذا بالنسبة إلى ما خلصت الدراسة إلى اعتباره جيدا، يكمن فى تراجع التهرب الضريبى بالنسبة للأشخاص الأثرياء والإيداعات البنكية والأسهم وأشكال مالية أخرى تم توطينها فى الخارج، وهى غير مصرح بها، وتحقق هذا التراجع بفضل نظام التبادل الأوتوماتيكى للمعلومات البنكية الذى تم الاتفاق عليه سنة 2017 وأقرته العديد من الدول.
وبالنسبة للتفاصيل المتعلقة بهذا الجانب تشير الدراسة إلى أن حجم الثروة العالمية الذى تم تهريبه إلى الخارج سنة 2022، قدر ب 12 ألف مليار دولار (12 تريليون دولار) وهو ما يعادل 12 بالمائة من الناتج الداخلى الخام العالمي، وأن ربع هذا المبلغ المهول غير مصرح به حاليا، بينما كانت نسبة الأموال المنفلتة من التضريب بسبب تهريبها إلى الخارج تصل إلى 90 بالمائة من مجموع الثروة العالمية سنة 2007. وهذا التراجع الكبير فى حجم الأموال التى تم تسفيرها إلى أماكن لحمايتها من التضريب تعتبره الدراسة تطورا إيجابيًا جدا. بينما تنبه الدراسة إلى ما اعتبرته سيئا، حيث أشارت إلى  أن أرباح الشركات الكبرى ارتفعت فى سنة 2022 إلى ما  قيمته 16 ألف مليار دولار (16 تريليون دولار )، من ضمنها 2800 مليار دولار محصلة كأرباح خارج الدول التى توجد بها المقرات الاجتماعية لهذه الشركات، و أن 1000 مليار دولار تم تهريبها نحو الجنات الضريبية، بما يعنى أن 35 بالمائة من الأرباح التى تحققها الشركات خارج الدول التى توجد بها، منفلتة من التضريب، وتكشف الدراسة على أن الشركات الأمريكية فى مقدمة هذه الشركات التى تلتجئ إلى توطين الأموال فى الخارج للتهرب من الضرائب، و هى تستحوذ على نصف المبلغ المهرب.
أما الجزء الذى اعتبرته الدراسة سيئا  جدا فيما رصدته، تمثل فى الإقرار بأن أثرياء العالم بصفة عامة لا يسددون الضرائب على ممتلكاتهم، و أن 0٫5 بالمائة منهم هم الذين يسددون ما بذمتهم فى هذا الصدد، وبذلك فإن أثرياء العالم أقل تضريبا من الطبقة الوسطى، ويرى معدو الدراسة أن فرض نسبة بسيطة من الضريبة على ثروات  2756  من أثرياء العالم والذين تصل قيمة ثرواتهم إلى 13 ألف مليار دولار (13 تريليون دولار ) لا تتجاوز 2 بالمائة من شأنه تحصيل 250 مليار دولار سنويا بما يعادل الموازنات السنوية لمجموعة من الدول النامية مجتمعة .
وبعيدا عن لغة الأرقام والإحصائيات، فإن الدراسة تنبه إلى ما هو أكثر خطورة فيما يتعلق بسوء التصرف فى الثروة العالمية، وفى تنصل الأثرياء والشركات الكبرى من تسديد الضرائب. ذلك  أن فقدان الثقة فى إمكانيات حكومات الدول فى تحقيق عدالة جبائية، بحيث يكون الجميع من أشخاص وشركات سواسية أمام القانون و فى الامتثال لتسديد الضرائب، وليس كما هو عليه الحال حاليا إذ يدفع البسطاء، خصوصا من الطبقة المتوسطة، ما يستحق عليهم من ضرائب، بينما ينجح الكبار فى التنصل من هذا الواجب، و تزيد بذلك ثرواتهم على حساب الطبقات المعوزة. اختلال من هذا القبيل يشعر الناس بالظلم وبالتالى لن يكونوا راضين عن تسديد الضرائب، و تفقد الثقة فى المؤسسات التى تصبح فى هذه الحالة، ليست عاجزة  عن القيام بواجباتها و بمسؤولياتها فقط، بل أيضا تصبح متحيزة لجهة معينة و متواطئة مع المتنصلين من تنفيذ القانون. كما أنه من شأنه أن يساهم فى ضعف وتآكل العقد الاجتماعى داخل المجتمعات، بسبب أن مجموعة نافذة داخل المجتمع الواحد تصر على تنصلها من مسؤوليتها الوطنية والاجتماعية. وفوق كل ذلك، فإن هذا الاختلال البنيوى يهدد مصير الديموقراطية فى العالم، لأن تنصل النافذين من تسديد واجباتهم تجاه المجتمع، وعجز الدولة على جعل الأشخاص يمتثلون للقانون و تغول هذه الفئة القليلة فى المجتمع بفقد الديموقراطية محتواها السياسى والأخلاقى ، و يفرغ المؤسسات التى تفرزها صناديق الاقتراع من محتواها. وبذلك فإن الديموقراطية تفقد مضمونها الحقيقي، لأنها تعجز عن تحقيق العدل والمساواة بين الأفراد والجماعات، وهو الهدف الذى وحدت الديموقراطية من أجله.  
هكذا يتضح أن سوء توزيع الثروة العالمية وتعميم الاستفادة منها بين البشر حيث ما كانوا ووجدوا بغض النظر عن ألوانهم وعقائدهم وعرقهم، ليس قدرا محتوما، بل هو نتيجة طبيعية جدا لنظام عالمى مختل وظالم، ولسياسات خارجية دولية معتلة يتحكم فى تفاصيلها الكبار النافذون.
نقيب الصحافيين المغاربة