«سِنةُ من نوم».. قصة قصيرة للكاتب محمود حمدون

الكاتب محمود حمدون
الكاتب محمود حمدون

عندما أرسلوا في طلبي للإدلاء بشهادتي، لم أتأخر إذ توقعت ذلك منذ فترة، تأهبت للأمر جيدًا، وإن كنت لا أخفي أن وجلًا شديدًا سيطر عليّ، تزايد خوفي بمرور الوقت, الموقف جديد والشهادة تحت القسم تحمل معاناة كبيرة لا تطيقها نفسي ويضطرب لها جسدي.

ذهبت في الموعد المحدد, مثٌلت أمام القاضي, الذي رماني بنظرة نارية فتّت في عظامي حتى وصلت للأعماق، سألنني: ماذا تعرف عن " عبد الباسط" ؟ اثنى قبل أن أنطق: حريّ بك أن تقول الصدق.

قلت: الحق أن الرجل كان يأتي صبيحة كل يوم في تمام التاسعة, لم يتخلّف صيفا أو شتاءً، يُقبل من ناصية الميدان الكبير، يسير بجوار حائط المدرسة القديمة، يتكاسل قليلا بفعل السن والضعف بجانب بناية هجرها سكّانها منذ زمن، يتحسس أحجارها بشغف ويقبّلها واحدة بعد الأخرى، أقسم أني رأيت ذات مرّة دمعة تنحدر سريعا على خدّه.

ثم صمتُّ لألتقط أنفاسي، فعاجلني القاضي بضجر: انتهيت ؟!

- يا سيدي, الرجل لم يخلف الموعد أبدًا , يسير ذات الطريق ويمارس طقسه دون تأخير, رأيته وأنا صبيّ غض, وأنا شاب يافع يندفع بين شعاب الحياة بنزق وتهوّر, ثم عاصرته وأنا كهل يتوارى خلف نضجه, متدثّرا بحكمة واهية.

- بصوت رخيم لا أثر لحياة فيه, سألني القاضي : ربما تخلّف عن موعده يوما ؟ أو ربما غافلتك الحياة أو أصابتك سنة من نوم فلم تلحظ وجوده مرّة .! فهل فعلت ؟!

غرقت في مقام الحيرة, فاعتصمت بالصمت, وعقلي يرتج بعنف كمرجل بخاري يوشك أن ينفجر, دقيقة أو أكثر ثم نطقتُ: أجزم أن سلطان النوم ربما هزمني وأطبق على أجفاني فمنعني الرؤية السليمة, ربما يا سيدي... أعتذر.

هوى القاضي بقبضة يده على المنصة فأحدث دويّا شديدا ثم نطق: كذبت وأنت تحت القسم.

- لم أكذب, فقط نسيت, للمكان رهبة وأي رهبة.!

بغلظة: تغافلك يعني أنك بأعماقك تريد المداراة, تبغي إنكار الحقيقة .

أجبت سريعًا: ما يعتمل بداخل نفسي محرّم على إنسان معرفته حتى ينطق به لساني .

قال بنبرة تحمل تهديدًا واضحًا: المنصة قادرة على قراءة أعماقك..ثم وقف وحمل أوراقه وغادر القاعة يجرجر عباءته الطويلة السوداء, يتدلّى من رقبته وشاح أخضر, تزيّنه نجوم وصقر مهيب ذهبي اللون..