«قصائد ملتهبة».. قصة قصيرة للكاتب محمود حمدون

 محمود حمدون
محمود حمدون

يا عم حسين، أنت حكّاء لا نظير له، ماهر في القص، عمرك مديد، بعضنا يحسدك عليه، بخاصة وأن صحتك لا بأس بها لمن في مثل عمرك، لا تؤاخذني بما أقول.. ما ترى فيما يحدث في فلسطين الآن وفي غزة بالتحديد؟

أدار الشيخ ظهره لشاشة التلفاز، بعدما رجا القهوجي أن يكتم الصوت، أو يبدل القناة لأخرى تدور عليها مباراة ما.

استغربت تصرفه وهو من أجلّه منذ أو وعيت على الدنيا، قلت بأسى بدا في صوتي: أراك لا تتفاعل مع الأحداث الدامية، وأنت لك باع في الوطنية، مقاتل شرس خاض ضد العدو جولات كثيرة حد علمي.. هل معلوماتي صحيحة؟

أعرف عن بطولته القديمة، فلم أكن أحتاج لتأكيد منه، بل غرابة التصرف، فأكملت: أتذكر حكاياتك لنا من عقود عن فترة خدمتك في سلاح الصاعقة، تسلّك خلف خطوط العدو قبل حرب أكتوبر، تندّرك من سهولة المهام وقتها كأنكم في نزهة، بطولاتك وزملائك أثناء العبور، الثغرة، الكمائن التي نصبتموها للعدو في شوارع مدينة السويس.

نظرت في عينيه كأنما ألتمس طوق نجاة، أردفت: أنت مقاتل بالفطرة يا حاج حسين، لمَ لا أرى تأثرًا على وجهك من المذابح التي يتعرض لها الفلسطينيون في " غزة" الآن؟ فهل يئست كما فترت همة الجميع؟ ما أتيتك إلّا لأعرف الحقيقة؟ لأقف على حجم الخذلان والفرار من الزحف، لا تؤاخذني مرة ثانية.

فليس لدينا سوى أن نتعاطف مهم، نبكي على قتلاهم، نشجب، نحمل أعلامًا وبيارق نتشح بالشال الفلسطيني الشهير، ندبّج المقالات النارية، القصائد الملتهبة، نذكّر الجميع بالقضية، نصول ونجول عبر الشاشات، المواقع، الجرائد المطبوعة والإليكترونية على السواء.. ثم عندما يحلّ الليل نأوي إلى مخادعنا، نطفئ أنوار المصابيح العالية الإضاءة ونترك الونّاسات، نضبط حرارة التكييف، لا يأتينا النوم إلّا حينما نلعن أمريكا، اسرائيل، الغرب الكافر الذي يقف وراء ذلك الكيان الصهيوني، ثم يطوينا الليل، لنصحو على واقع مفزع، نستقبله بديباجة أكثر قوة.

فلمَ لا تتركنا نستمتع بحق المشاركة المعنوية هذه مع المقاومة هناك؟ هل أصابك....

خجلت أن أكمل عبارتي، غير أنه أتمّها بكلمة واحدة: الخَرَف! لم يصبني للأسف، فذهني حاضر، ذاكرتي حديدية، أحفظ عدد طلقات الرصاص التي أطلقتها على صدور جنود العد، قتلاهم بأسمائهم، فمتعتي وقتها أن أنزع بطاقة تعريف القتيل منهم وأحتفظ بها، لديّ درفة في دولابي العتيق أحتفظ فيها بهذه البطاقات، أعرف كل شبر في سيناء، كل عملية تسلل شاركت فيها، معاناتي الحقيقية أنني شيخ يسير على ذاكرته.. أتريد إجابة على أسئلتك؟

باختصار لا حاجة للمقاومة للولولة والشحتفة كما نقول، ما تفعله الميديا بحسب المصطلح الحديث للإعلام هي دعاية سلبية، تطوير لمفهوم الطابور الخامس، هل سمعت به من قبل؟ على العموم مثل هذه الترهات تفتّ في عضدكم أنتم.

علت صوت الرجل، حتى خشيت أن يثير انتباه الناس، أكمل: لكن.. المقاتلون، القابعون على صدر الصهاينة هناك، هم في غنى عنّا صراخنا، هم بحاجة فقط لسلاح وعتاد، من يشد أزرهم، من يتغنى بمجدهم الذي حققوه ولا يزالون في عمق الكيان.

 

اقترب منّي، وضع كف يمينه على ركبتي، قال: ثق أن المقاومة تسطر ملحمة عسكرية جديدة جريئة، أزعم أن الكليات العسكرية ستضعها بمناهجها قريبًا، أن نفرًا من عناصر المقاومة مرمط أنف وكرامة جيش نظامي يدعي أنه لا يقهر، نزع عنه ملابسه على مرأى من العالم، ما جنون الكيان وجيشه ومن يقف خلفهم من الغرب أو الجوار إلّا أن المقاومة أبانت علانية أن الحل سهل ومعروف، لا بديل عنه، يبحثون عن فرصة مواجهة حقيقية بين جبابرة يعرفون كيف يصلون إلى حقهم وعصابة من اللصوص سطوا بليل على أرض ليست لهم..

قلت بقلق: يا سيدي، جيش الكيان على أعتاب "غزة"، سيقتحمونها خلال ساعات، طائراتهم تدكّ المدينة دكًّا على مدار الساعة، ألم تر الخراب والدمار والضحايا بخاصة من الأطفال؟، يا عم الحاج، تعيب على الإعلام العربي أنه يندب ليل نهار، يفت في عزيمة المقاومة، إلّا أنك لا تقل عنه لكن بصورة معاكسة، أراك تُعلي من قيمه ما يفعله المقاتلون الفلسطينيون، تشجعهم، كأنك تدعوهم للانتحار علانية في مواجهة غير متكافئة!

ضحك بشدة حتى سعل من شدة الضحك، اعتذر، قال: إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ... هل سمعت هذه الآية الكريمة من قبل؟

قلت وقد صدمني ردّه: " إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ...  “كأني أسمعها توًّا، من الجبارين؟

ضحك الشيخ، وإن كانت الشيخوخة كمرحلة عمرية لا تناسبه، فقد تجاوزها من بعيد، نهض من مقعده، ربّت على كتفي، وضع حساب القهوة على الطاولة، غادرني يردد المقطع الكريم بصوت جهوري: " إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ".