أتوموبيل الفن

مدحت عبدالدايم يكتب: محمد منير أغنية النخيل وصفصافة العشق والحرية

مدحت عبدالدايم
مدحت عبدالدايم

■ بقلم: مدحت عبدالدايم

من تخوم أسوان هدر الأمل في صوته، وتدفقت ألحان أغانيه تحمل عذوبة النيل، وسرت كحلم يظلل نخيل الجنوب، وترقرقت نسماته في ربوع الوطن  تروي عطش الصحاري، وعلى ضفاف حنجرته نامت أحلام الكادحين، وأشرق النهار أملًا يحكي مواويل البهجة والعمل، وبدا أن الفتى الأسمر يعرف طريقه إلى قلوب الملايين، وأنه سوف يمضي حاملًا راية التغيير والتعبير عما يجيش في الصدور، وأن حكاياته ستبعث الأمل مجددًا في أوصال الوادي، بما تحمله من قصص وأناشيد تبشر بالخصب والنماء والعشق والحصاد، وتحت ظلال صفصافة صوته التقط المهمومون أنفاسهم وجفف المتعبون عرق كدهم، وغرس الفلاحون أشجار النور في كل مكان، وسرت مواكب العمل والبناء، تستشرف الغد الآتي، وليمضي ركب الحياة، بعزم شعب قادر على تغيير الواقع إلى ما يليق بوطن يتسع للجميع، وليهتف صوته: "ليه تسكتي زمن اتكلمي .. ليه تدفعي وحدك التمن؟ وتنامي ليه تحت الليالي؟ المشربيات عيونك بتحكي ع اللي خانوكي .. واللي سنين هملوكي .. جوه البيبان سلسلوكي .. وليه تسكتى زمن، المشربيات عيونك بتحكي على خلق ولت .. سهرت.. وصلَّت.. وعلت .. في الصخر شقت ما كلت.. أنا ابن كل اللي صانك.. رمسيس وأحمس ومينا.. كل اللي زرعوا في وادينا.. حكمة تضلل علينا".

اسمه محمد منير أبا زيد جبريل متولي، ولد في العاشر من أكتوبر عام 1954 بقرية منشيه النوبة بأسوان، تفتحت مسام وجدانه على إيقاعات الحياة في تلك المنطقة التي تتعانق فيها الأرض والسماء، الظلال والأشجار، الطمي والماء، الليالي والغناء، السهر والقمر والمزامير، المراكب والجداول والدفوف، التف حول حنجرته الشجية جمهور قريته، واتسعت أحلامه ليغني لشعب، وعلى الرغم من تخرجه في قسم الفوتوغرافيا والسينما والتليفزيون بكلية الفنون التطبيقية بحلوان، إلا أنه كان حريصًا على أن يظل الغناء هوايته الأولى والأخيرة، وكما التقى الملحن النوبي أحمد منيب، التقى شاعر الصعيد عبد الرحيم منصور، فتعانقت الرؤى، وامتزجت الأماني والتقت حد الانصهار، يقول صاحب "الحقيقة والميلاد": حين قررت الانتقال من أسوان للقاهرة للدراسة كان والدي يرسل لي ثلاثة جنيهات مصروفً شهريًا وقمت بعمل اشتراك في الأتوبيس "أبونيه" تكلف استخراجه خمسون قرشًا لكوني طالبًا، وكنت أحصل على مصروفي من شقيقي الأكبر فاروق وعن طريقه عبرت أغنياتي إلى البحر المتوسط  لأقول بفني: "أنا المغني الذي ينتمي إلى تراب مصر ويحمل رائحتها ونيلها وطميها" وكان مترجمي الخاص في جولاتي الأوروبية، وإليه أيضًا يرجع فضل معرفتي بالملحن النوبي أحمد منيب، ولا ينسى صاحب "هيلا هيلا" دور الأب "عجمي" في حياته حيث رآه في مستهل مشواره الفني وتنبأ له بمستقبل واعد، كان اللقاء في بيته المجاور للكنيسة المطلة على ميدان الإسماعيلية، ذلك البيت الذي كان بمثابة واحة أو مدرسة فنية اتسعت لكل مطربي وموسيقي مصر، ممن منحهم الآلات الموسيقية اللازمة وهيأ لهم المكان المناسب للخلق الفني والإبداع.

كان منير يحلم برؤية موسيقية مختلفة لم يستمع إليها في الأغنية العربية وتحقق له ذلك بعد لقائه بالفنان يحيى خليل الذي يعده "أحد أهم الموسيقيين المصريين الذين يتمتعون بوجدان مصري، وعاش لسنوات طويلة في أمريكا، والموسيقى هناك من أنضج الفنون، لذا فقد شاركه أحلامه في معالجات أغنياته موسيقيًا" بينما رأى خليل في منير مقومات المطرب العصري، وهو ما يتجلى في اهتمامه بمضمون ما يقدمه، وبالفكر الفني الذي يطمح إلى تقديمه، فصوت منير حلو بطبيعته حتى لو غنى بدون موسيقى، يقول منير أنه لم يغن في حياته أغنية إلا وكانت ترجمتها وطن: فحينما غنيت "يا صبية يا حنينة" و"علموني عنيك أسافر" كنت أُقصد بهما الوطن. 

يقول صاحب "الليلة يا سمرا" إن الأغنية شغله الشاغل، وأنه في سعي دائم إلى تقديم الجديد، يساعده في ذلك على حد تعبيره: مليون مستشار لا يتقاضون أجرًا، هؤلاء هم أصدقائي من مختلف فئات الشعب، من المثقفين والصحفيين والنقاد والعمال والكادحين وعامة الناس، فأنا لست صناعة نفسي، أنا صناعة عشرات المحبين من جميع الطبقات، كما يرى أنه أول حالة "نيو لوك" في العالم العربي كله، منذ بدايتي أغني بـ "تي شيرت" وبنطلون "جينز" وبعدي تخلص المطربون من البدلة وغنوا بنفس الملابس، والشياكة بالنسبة لي أن استشعر الراحة فيما ألبسه أيا ما كان اللبس أو الألوان.

في عام 1977 أصدر منير ألبومه الأول "علموني عنيكي" وضم مجموعة من أغنياته التي حملت توقيع الشاعرين عبد الرحيم منصور وسيد حجاب ونغمات أحمد منيب وهاني شنودة، فيما أصدر ألبومه الثاني "بنتولد" عام 1978، ودشن انضمام الشاعر مجدي نجيب إلى قافلة مؤلفيه، وحقق ألبومه الثالث "شبابيك" نجاحًا غير مسبوق، وشهد انضمام فؤاد حداد وشوقي حجاب إلى قائمة الشعراء وبليغ حمدي ويحيى خليل وحسين جاسر إلى ركب الملحنين، وتوالت ألبوماته الرائعة لتؤكد أصالة مشروعه، فيما حققت مسرحيته "الملك هو الملك" للكاتب الكبير سعد الله ونوس نجاحًا منقطع النظير، وأحيت الأمل في عودة المسرح الغنائي مجددًا، بأشعار أحمد فؤاد نجم وألحان حمدي رءوف، ومنحته الجماهير على إثر عرضها عامي 1988 و2006 لقب "الملك" عن جدارة، ودخل صوته إلى كل البيوت المصرية خلال شهر رمضان عبر شخصية "بكار" الطفل المصري النوبي بغنائه العذب الرقراق.

الفن عند صاحب "الساحل الشمالي" تحريض ووعي ويقظة، إذ يقول: "غنيت القدس، وغنيت شجر الليمون دبلان على أرضه، وأتحدى لياليك يا غروب، والعَمّارة، ويا ابن العرب، تحريضًا للثورة والحرية والاستقلال والطموح، وغنيت "لو بطلنا نحلم نموت" و"علِّي صوتك بالغنا" تحريضًا على الأمل والقدرة على الاستمرار ومقاومة السلبيات، ولا يخفي "الملك" شغفه بسيارته الكاديلاك ATS  وتفضيله لـ "المرسيدس" موديل x204 ويؤكد أن أي سيارة امتلكها وأي ثروة أو شهرة حققها بمثابة دَين عليه للجمهور الذي منحه كل ذلك تجاوبًا مع فنه الهادف، وتبقى معاناته الدائمة على حد قوله هي: كيف تخلق فنك؟ فأول أغنية حملت صوته للناس تقول كلماتها: "لا يهمني اسمك، لا يهمني عنوانك، لا يهمني لونك، ولا ميلادك، مكانك، يهمني الإنسان، ولو ما لوش عنوان" والسياسة بالنسبة له "فن استنشاق هموم الناس ومتاعبهم وأوجاعهم وترجمة ذلك إلى فن، وهو ما تجلى في أغنية "مدد" بحرصه على تقديم وتقريب هذه الثقافة من الناس، فالعدل تأكيد على احترام العادات والتقاليد والثقافة والمعتقد، يقول منير: أنا ابن هذا التنوع الثقافي، نشأت على احترام وتقديس النبي محمد والسيد المسيح والسيدة العذراء عليهم صلوات الله ... ميلادٌ سعيدٌ يا صفصافة العشق والحرية.