أمس واليوم وغدًا

عصام السباعي يكتب: ارحلوا .. فلن يرحلوا !

عصام السباعي
عصام السباعي

المؤكد أن التاريخ سيتوقف كثيرا فى القاهرة، كما سبق وفعل فى مواقف كثيرة، منذ أشرق «فجر الضمير» من أرض مصر، وإتمام ولادة أول منظومة متكاملة للقيم الأخلاقية خرجت من رحمها، وسيسجل التاريخ كيف واصلت مصر حماية الضمير العالمي، فى كل جهودها التى جنبت العالم شرور الطغاة وكل أصحاب القوى الغاشمة، حتى وهى مازالت تنهض من دوامة، حاول أهل الشر أن يجعلوها تتوه فيها، لولا إرادة الله التى جمعت كل المصريين على قلب رجل واحد، فى ثورة 30 يونيو، وبدأت فى مواجهة الأشرار حيثما ظهروا فى الشرق والغرب وفى الشمال والجنوب.

سجل التاريخ موقف مصر الأخلاقى والإنسانى والحضارى والمسئول، فى مواجهة البطش والإبادة الجماعية التى يتعرض لها الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة، وسجلت مصر مواقفها الثابتة والقوية من تلك الكارثة، وبذلت أقصى وسعها لتجاوزها، وكان مؤتمر قمة القاهرة للسلام الذى دعت له مصر، لاحتواء الأزمة المتفاقمة، وخفض التصعيد العسكرى بين الجانبين الإسرائيلى والفلسطينى الذى راح ضحيته آلاف الشهداء من المدنيين الأبرياء، وسوف يذكر التاريخ الجهود التى بذلتها كل القطاعات المعنية، والمواقف التى خرجت عن الرئيس عبد الفتاح السيسي، قبل وأثناء وبعد المؤتمر وحتى تلك اللحظة، وخاصة على المستوى الإنسانى والأخلاقى  .

وأشعر بالفخر والاعتزاز بكل كلمة صدرت وكل تحرك مصرى تم، لوقف الهجوم البرى على أهلنا من سكان غزة، والحصار الهمجى لهم، والقصف الحيوانى للبشر والحجر والمستشفيات ودور العبادة فى القطاع، ودخول الإغاثة إلى المنكوبين، ومن هنا كان تساؤل مصر على لسان الرئيس السيسي: أين المساواة بين أرواح البشر دون تمييز أو تفرقة أو معايير مزدوجة ؟ وتأكيده على الرفض القاطع لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، بما يؤدى إلى تصفية القضية الفلسطينية، وضرورة التحرك من أجل إنقاذ مليونين ونصف المليون إنسان يتعرضون للعقاب الجماعى والحصار والتجويع والعالم يتفرج، وكانت كلمات البيان الذى خرج عن رئاسة الجمهورية مصاغة بدقة بالغة، فدعوة مصر للمؤتمر كانت تهدف إلى بناء توافق دولى عابر للثقافات والأجناس والأديان والمواقف السياسية، توافق محوره قيم الإنسانية وضميرها الجمعى، ينبذ العنف والإرهاب وقتل النفس بغير حق، وتمهيد الطريق لإطلاق عملية سلام حقيقية وجادة تؤدى، خلال أمد قريب ومنظور، إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، على خلفية إيمان مصر الراسخ بالسلام كخيار استراتيجى لا حياد أو تراجع عنه، حتى تتحقق رؤية حل الدولتين.

واسمحوا لى بالتوقف أمام تلك الدول التى اكتفت فقط بإدانة هجمات حماس ضد الاحتلال والمحتلين وتأكيد حق إسرائيل فى الرد والدفاع عن نفسها، وسؤالها: لماذا لم تتم إدانة القوة الغاشمة والحصار الوحشى والانتقام الجماعى للفلسطينيين؟، ولماذا ترفض إعطاء نفس الحق لشعب محتل، ودعونى أسأل الجميع: هل تعطون بذلك كل المبررات لتقوم روسيا بتسوية أوكرانيا بالأرض؟، كما أسأل وزيرة الخارجية اليابانية يوكو كاميكاوا، هل تبررين بذلك قيام أمريكا بإبادة هيروشيما ونجازاكى بالقنابل النووية، ردا على قيام اليابان بغارتها الجوية القوية على ميناء بيرل هاربر عام 1941؟ مجرد سؤال سيكشف تراجع الضمير الإنسانى عن بلاد، كان الشرف أثمن ما فيها !

تبقى كلمة أخيرة، وهى ضرورة كشف كل آثام «الصهيونية المسيحية»، فقد تمكنت من العقول لدرجة جعلت مفكرا مثل صامويل هنتنجتون يصف المجتمع الأمريكى بأنه يقوم على الدين، وحقيقة هو كذلك، ومن هنا نفهم كيف تم تطويع الدين لتبرير إبادة الهنود الحمر، وهكذا يبررون وحشية الكيان الإسرائيلى فى خطة محو الوجود الفلسطينى على أرضه، ولن تكون فلسطين الميراث السماوى لأحد، ولن تكون قشا مثل بيت «عيسو»، لأن الرب لايمكن أن يتكلم بذلك، فلا يمكن أن تكون وصيته لا تكذب فيكذب البعض حتى على نفسه، ويأمرهم: لا تقتل، فيبيدون شعوبا ويمحونها من الوجود.. انظروا إلى العراق وأهل بابل ولبنان وسوريا وأهل فينيقيا، واعلموا أن كلام الله مع الحق والعدل، ولا يعطى وعده أبداً لقاتل فاجر، من مجازر حيفا وبلد الشيخ والسرايا القديمة إلى بحر البقر وقانا ورفح وجنين وغزة، ومن عصابات الإنسل وليحى والهاجاناه والأرجون، والبالماخ إلى دولة إسرائيل، ومن بيجن وبن جوريون وجولدا وبيريز، إلى نتنياهو وبايدن!

لقد كان مؤتمر قمة القاهرة كاشفا للمواقف، وموضحا وربما فاضحا للمدى الذى وصلت له البشرية فى مؤشرات الحضارة الإنسانية، ورسالة قوية خرجت من أم الدنيا للمحتل: ارحلوا ، فلن يرحلوا.. تحضروا، ولا تفجروا.. تعايشوا وكونوا بشرا.. وليكن السلام هو غايتنا وحياتنا.. لأن البديل صعب ودامٍ وقاسٍ للجميع.

◄ بوكس

صور الشهداء والمصابين من أطفال غزة، ونظرات الصبر والإصرار فى عيون الناجين منهم، تؤكد أن انتقامهم سيكون قاسيا وداميا من هؤلاء القتلة، ما لم يبدأ السلام الآن وليس غدا !