«قضمة».. قصة قصيرة للكاتبة نجوى عبد الجواد

صورة موضوعية
صورة موضوعية

في زيه الكامل وقف يعدِّل رابطة العنق، لديه اليوم لقاءات مهمة في الشركة، صار رجل أعمال يخدم بلاده، ينتهي من رابطة العنق، يقاوم شعورا بالتعاسة يغزوه من حين لآخر، يغادر إلى الصالة إثر ضجيج محبب إليه اعتاد عليه كل صباح منذ أن جاءوا ليؤنسوا وحدته، برغم إزعاجهم فالصالة مرتبة وقد التزموا بالصلاة والاستيقاظ مبكرا، صباح الخير يا زينب.

صباح الخير يا عمي.

صباح الخير يا مزعجون.

صباح الخير يا جدي.

أين محمد.

يصلي وسيلحق بنا على المائدة.

حدوتة كل صباح يا عمي. اليوم إجازة يا جدي ونريد أن ننام، لا نريد إفطارا.

إجازة؟!

اليوم الجمعة يا أبي.

نسيت وارتديت ملابس الخروج.

سنخرج فعلا إذا تناولوا طعام الإفطار دون ضجيج.

صاح الأطفال: يعيش بابا، يعيش بابا.

تضع زينب طعام الإفطار والشاي أمام الجميع. يمسك الجد برغيف الخبز ثم يتركه، لقد نسي أمرا ما، يتجه إلى حجرته.

:الفطار يا أبي.

: سأعود حالا.

يدخل حجرته ويغلق الباب يذهب خلفه يوسف، يصرخ فيه والده أكمل فطارك.

كانت ملامح جدي غاضبة وقد تأخر في حجرته سأناديه.

يقترب من الحجرة، لا يصل إليه هذا الهمس ولا يدري لمن يوجهه. ينهره والده :لا تتلصص. يفتح جده الباب ويحيطه بذراعه ويعودا للمائدة. افطر جيدا يا عمي لقد بدا عليك الضعف هذه الأيام.

يبذل مجهودا كبيرا.

يعلق محمد:  شكرا زينب دائما تهتمين بي.

 

ربنا يحفظك لنا يا عمي أحمد. يرفع الجد رغيف الخبز إلى فمه ويأخذ قضمة واحدة فقط ويمضغها وهو في عالم آخر. يحترم الجميع شروده وصمته المقدس، يترك باقي الرغيف كعادته وينتهي من فنجان الشاي. يقتل الفضول يوسف، حذره والداه من إزعاج جده بالأسئلة:جدك قلبه مثقل بالذكريات الحزينة، لا تنبش فيها ولا تجدد أحزانه. فقط يا أبي سؤال يحيرني :لِمَ يأخذ جدي قضمة واحدة من الرغيف ولا يغير هذا التصرف مطلقا؟! ومن صاحبة هذه الصورة التي  يتأملها في صمت وحزن أوقاتا طويلة؟

سأحكي لك فيما بعد. يقول أبي دائما ولا يأتي فيما بعد مطلقا.

أراد محمد أن يخرج والده من شروده ما رأيكم أن نخرج التاسعة إلى المنتزه وبعد الصلاة نتناول الطعام في أجمل مطاعم المدينة.

الجو شتوي جميل، تغيير من أجلنا جميعا. تقول زينب

لا بأس الصباح جميل في غزة.

يرد أحمد على محمد وزينب.

الزوجة سنجهز في وقت قياسي هيا يا أولاد أسرعوا. قطعت السيارة مسافة ليست بالطويلة يسير بسرعة متوسطة في الشوارع شبه الخالية حتى يستمتعوا بالمدينة وهي هادئة. الأولاد يعلنون سعادتهم في حديثهم مع أمهم، ووالدهم يدير المذياع الذي يتحدث عن اقتراب موعد الاحتفال بعيد النصر. عينا الجد تتنقل بين منظر الأشجار المنسقة على الجانبين وبين أشعة الشمس التي بددت الغيوم وسقطت بين الأشجار على امتداد الشارع.

تخترق السيارة ضاحية المنطقة الصناعية. نهضة كبري في البلاد بعد التحرير واهتمام رائع بتعويض سنوات الاحتلال البائسة. زينب في الخلف تشير لمعالم المدينة وتحكي عن أهم ذكرياتها في هذا الشارع الذي كانت تسكنه. كان صوت الأطفال طربا رقيقا وهم يسألون، وصوت زينب هادئا حنونا وهي تجيبهم.

ما رأيكم، أين أتوقف؟ المنتزهات على الجانبين لكم القرار.

قالت زينب : الرأي لعمي.

منتزة المعمداني.

ينظر الزوجان لبعضها البعض ويقول محمد: اختر غيره يا أبي.

اتركوني فيه واذهبوا أنى شئتم.

نريدك أن ترفِّه عن نفسك لا أن تجتر ذكريات لا تفارقك أصلا.

لا حاضر بدون ماضٍ  لن أعكر صفو يومكم، فقط أشعر بالحنين لهم وأود أن أبقى معهم قليلا.

كما تعلم يا أبي تغيرت المعالم وتحولت المستشفى إلى منتزه للأطفال ومتحف.

سأدخل المتحف وأنتم تستمتعون بالحديقة. يرد الأب.

أمرك يا أبي. يوافق محمد.

انطلق الأولاد إلى حيث الألعاب والتي تحتل ركنا كبيرا من الحديقة

خاصا بها بينما جلس الأبوان بالقرب منهم حيث المقاعد تظللها الأشجار والزهور. الهواء المنعش يضيف جاذبية إلى المكان، لا يعكر صفو النزهة سوي إحساس الشفقة من أجل جد الأولاد. على عتبة المتحف يجلس رجل الأمن بدا لأستاذ أحمد إنسانا عاريا من المشاعر، خلا وجهه من التفاعل مع نسمات الصباح وجمال الطبيعة، كما خلا من ملامح تفاعل مع الصور المعلقة على الجدران. ربما التعود الذي يجعل المشاعر تخفت. صباح الخير.

صباح النور تفضل.

صور صعبة على كل إنسان. صورة جماعية لأطفال في أكفانهم، حذاء طفل ملطخ بالدماء، ألوان وكراسة رسم مغطاة بالدماء.. يسرع بعينيه هربا من قسوة الصور حتى يصل لصورتها طفلة الخبز!

المراجيح للصغار وهذه الألعاب لا تناسبني سوف ألعب" بسكوتر".

ساعد أخاك وأختك أولا.

أمي، لا شأن لي بهما، سألاعب نفسي.

أناني.

يضحك يوسف وينطلق وتضطر زينب ومحمد إلى الإشراف على لعب منتصر وصفية.

لا تبعد يا يوسف.

يلوح لهما بالموافقة. لكنه في قرارة نفسه قرر أن يستكشف المكان كله. يتنقل من هنا لهناك بسرعة فائقة سعيدا بالمكان وباللعب. يعبر المكان بسرعة  ثم يعود إليه مرة أخرى حيث جده واقفا بداخله. يقرأ: "متحف شهداء المعمداني" ينقبض قلبه ويغطي عينيه من بشاعة ما تنطق به الصور.

كيف يقوي جده على الوقوف والنظر طويلا لهذه الصور، ماذا يجذبه لتحمل هذا العذاب؟! يهم بالنداء عليه ثم ينتظر عندما وقعت عيناه على الصورة التي يقف عندها جده. إنها تلك المعلقة في حجرته وظنها إبداع فنان فإذا بها لطفلة حقيقية! كمن خرج توا من كهف يملؤه هواء ساكن وتفوح منه رائحة الموت وأصوات المفرقعات، صرخات النساء والأطفال، يخرج الجد إثر سماعه صوت يوسف يناديه. يوسف؟! اخرج من هذا المكان يا ولدي وانطلق للعب والمرح واسعد بحياتك. مغالبا دموعه بل تقول لي ما حكاية هذه الصورة ومن هذه الطفلة الممسكة بالخبز المروي بالدماء؟

حسنا حسنا تعالي نبتعد قليلا، لا أريد إفساد فسحتك يا يوسف.

احكِ يا جدي بالله عليك.

على مقعدين متجاورين جلسا.

تنهد الجد كأنَّ حملا ثقيلا على صدره وقال: كنت في مثل عمرك يا يوسف وكان لي أخ في عمر منتصر وأخت تقترب من عمر صفية اسمها ليلى. استيقظنا ذات يوم على نصر مبين للمقاومة، هجمات على إسرائيل، جرحي وأسري منهم وهلّلنا وكبَّرنا وكانت فرحة العمر.

هذا عيد النصر يا جدي؟

نعم.

وماذا بعد؟

هُزِم العدو

 

هُزِم العدو في جبهة القتال فتحول إلى وحش كاسر، آلة تقتل بلا رحمة، منع عنا الماء والطعام والكهرباء وأحال ليلنا نهارا من شدة القذف.

لعنة الله عليه. قال يوسف.

كان أبي من المجاهدين ولم نكن ندري هل كان حيا أم استشهد. حاول جدي أن يخفف عنا، لكن الواقع كان شديد القسوة. الطعام والشراب بالكاد يكفينا يوما أو يومين، الموت يلاحقنا مع كل ضربة يوجهها لنا العدو.

يا الله!

استيقظ يا أحمد، سوف يسترنا الظلام  ونرحل إلى الجنوب.

لن نترك بيتنا يا أبي

هكذا صاحت أمي.

العدو يمهلنا يومين للمغادرة.

لن نترك أرضنا، لا مفر سأموت هنا.

كل شبر هنا أرضنا   جهزي الأولاد وهيا.يقول الجد عدة سيارات تتجه نحو الجنوب، لا أظنه ليلا، الصواريخ تضيء هذا الظلام، المنظر مخيف، أكثر من سيارة أصيبت في الطريق، اترك لي القيادة فأنا أدري بالطريق، هكذا قال جدي للسائق. كان جدي ماهرا في اختراق الطرق المظلمة والحواري الضيقة البعيدة عن سطوة صواريخ العدو وأنا وأخوتي نردد الأدعية خلف أمي ويتلو كل منا ما يحفظ من آيات قرآنية. أشرقت علينا الشمس ونحن أمام مستشفى المعمدانى، إنها تستقبل كثيرا من الباحثين عن الأمان، الفارين من فوهات المدافع وطلقات الرصاص وصواريخ العدو. نزل جدي، أمسك بيد أخي، وحملت أنا أختي ليلى، وحملت أمي حقيبة صغيرة بها بعض ملابسنا. شعرنا بقليل من الهدوء وانضممنا إلى من سبقونا، وانضم أخي للأطفال الذين يلعبون في حديقة المستشفى بعد أن تناول معنا آخر ما نملك من طعام وماء.

أمر محزن يا جدي.

نعم يا ولدي، كل هذا من أجل الوطن يا يوسف.

وماذا بعد يا جدي؟ في يومنا الثاني وزعوا علينا ما يسد الرمق من طعام وشراب وجاء اليوم الثالث ليعلنوا أن الطعام أوشك على النفاذ وأن طابورا منظما يكفل لكل فرد ما يمكن أن يبقيه على قيد الحياة؛ فالعدو منع المساعدات من الدخول وهم لا حيلة لهم.

يقتلونكم بطريقة أخرى.

صدقت يا يوسف.

 شعرنا بذل ومهانة ولم يكن لدينا رغبة في طعام حتى نقف في الصف!

وكم بقيتم على ذلك؟

لا أدرى فكل الأيام لا تحمل سوي رائحة الموت والمعاناة. أزعجت صرخات ليلى مَنْ حولنا،ولم تستجب لمحاولات أمي إسكاتها. إنهم يروننا بدون طعام منذ البارحة، قامت عجوز ومنحت ليلى رغيفها وربتت على كتف أمي التي بكت حالنا بشدة. وقررت أن أقف في الطابور من أجل العجوز التي تنازلت عن رغيفها، ومن أجل ليلى ومنتصر. مرت ساعة، ساعتان،ثلاث ساعات حتى جاء دوري وحملت الأرغفة وقطع الجبن القليلة، وما إن مددت قدمي خارج الطابور حتى تطاير ما معي من طعام وانكفأت على الأرض وتحولت المستشفى إلى جحيم. أخوض في بحر من الدماء! جثث أطفال ونساء، أشلاء تملأ المكان صرخات فزع، بكاء وعويل، رجال يهرولون حاملين المصابين لسيارات الإسعاف، لا أشعر بقدمي إنها تنزف بشدة، يريد أحدهم أن يحملني لعربة الإسعاف، لا أستجيب، أبعد أيديهم، إنني أبحث عنهم، يا رب أين هم؟، اتركهم لى كيف أحيا بدونهم؟! ، لا تدعني في هذه الدنيا وحيدا. أدعوك يا إلهي. أصطدم بالمهرولين، أقع ثم أتحامل على نفسي وأقف، أبحث عن المكان الذي كنا فيه فلا أجده، دمار، دمار هو كل ما أشاهده. وأخيرا دلتني عليهم ليلى! رغيف الخبز مازال في يدها! قضمة واحدة فقط هي التي سدت جوعها للأبد! تركته لهم مرويا بدمائها ربما يكتفون من الدماء .

يبكي يوسف. ويصمت الجد وكأنه خرج من هذه المجزرة الآن.

من أجل هذا تأخذ قضمة واحدة من الرغيف كل صباح؟!

من أجل ألا أنسى يا يوسف أفعل الكثير.

ضحيتم كثيرا يا جدي.

نموت ويحيا الوطن يا يوسف.

يرمى بنفسه في حضنه. تعذبت كثيرا يا جدي، كان والدي محقا، لِمَ تعذِّب نفسك بالذكريات؟

حقهم علينا أن يظلوا أحياءً بيننا.

وحقك أن تحيا بلا ألم يا جدي بعد كل ما عانيته.

لولا الألم ما عادت الأرض يا يوسف.

يترك يوسف حضن جده فجأة ويقول سوف أعود حالا. ينظر الجد متلهفا، لا يتأخر يوسف يعود ويفتح هاتفه وقد جعل خلفيته صورة ليلى ممسكة بالخبز!.

لِمَ يا يوسف؟!

حتى لا ننسى يا جدي.

 لا أريدك أن ترث الألم يا ولدي.

لولا الألم ما عادت الأرض يا جدي.

 عن سر هذا الحضن الدافئ يتساءل والدا يوسف.

الجد مبتسما لقد جعنا تماما، أصبِّر يوسف علي الجوع.

يرسم يوسف ابتسامة من يدعم الكلام. هيا إذن إلى الصلاة وبعدها نسكت معدتيكما الشرهتين. يضحك الجميع ويتجه ثلاثتهم إلى المسجد ولا يشبع منتصر وصفية من اللعب تجلس بجوارهما زينب وهي تحمد الله على دفء الأسرة وحضن الوطن.