«حسرة» قصة قصيرة للكاتب الهادي نصيرة | تونس

صورة ارشيفيه
صورة ارشيفيه

عم حسن تجاوز عمره تسعين عامًا، توفيت زوجته مؤخرًا فأجبر على مغادرة منزله والانتقال إلى مكان لم يكن له به عهد من قبل.

جلس هناك ينتظر أن يؤذن له بالدخول.

كانت ملامح وجهه قد اكتنفتها حالة من التعب والإرهاق وبدت على جبينه الأسمر خطوط منحنية غدت شاهدا على ما تبقى من آثار تلك الصراعات الطويلة والمريرة التي خاضها الرجل في سباق مع زمن آفل، حاد كالسيف.

وعلى وجنتيه حفرت رياح السنين أخاديد ظلت تتعمق، وتزداد تعاريجها حدة لتحيط بعينيه الخابيتين، المنطفئتين .

 عم حسن عانى ويلات الدهر وتقلباته القاسية، وعاش فترات من حياته تحت وطأة الفاقة والحرمان .

 ها هو ينزوي، اليوم، في ذلك المكان الذي انتهى اليه، يجثم على الكرسي بأسماله الرثة التي لم يعد يذكر تاريخ شرائها من أكداس الثياب المستعملة.

 لم يعد يهمه أن يتذكر، فقد اعتاد أن يتناسى همومه في خضم العيش على إيقاع أيامه البائسة.

لقد ألقت المعاناة بظلالها على الرجل، فتقوس ظهره، واشتعل رأسه شيبا، وتساقطت أسنانه ولم يبقَ منها إلّا بضع أضراس يستعان بها لمضغ ما تيسر من لُقَيْمات الأطعمة اليومية.

  بعد ساعات طويلة من الانتظار، استقبله مسؤول في دار إيواء المسنين، وخاطبه وهو يحاول عبثا أن يظهر أمامه بوجه بشوش:

__ تفضل معي لأصحبك إلى غرفتك!

سار العم حسن مستندا على عصاه حتى وصل الغرفة التي بدت صغيرة ومتواضعة جدًا.

لم يكن يتوقع أن تشهد حياته ذلك المنعرج.

 فمنذ أن رحلت عنه زوجته إلى الأبد، بات يعاني من الإحساس بالوحدة، وبالملل من وجوده في بيت أحد أبنائه المتزوجين.

ليس هناك ما هو أقسى على المرء من ذلك الشعور بالغربة في محيطه العائلي حين يرى أن الكل أضحى غارقا في تفاصيل مشاغله اليومية، منهمكا، يلهث خلف مصالحه، ومآربه الشخصية، ولم يعد لديه وقت لنيل نصيب من الراحة، والتخلص من الأعباء التي أثقلته بمتاعبها. لقد قست عليه الحياة، فاستحال قلبه جلمود صخر، ونسي واجباته الملحة تجاه والديه.

دلف العم حسن إلى داخل الحجرة، مفكرا فيما هو فيه، ممسكا عن الكلام، لكن مرافقه قطع عليه، فجأة، حبل تفكيره، وكلمه وهو يهم بالانصراف:

__ هذه غرفتك. أتمنى لك إقامة طيبة!

أحس العم حسن بالتعب فألقى بجسده النحيل على سريره، واستسلم للنعاس في ذلك الفضاء الضيق الذي خيم عليه الصمت والسكون.

مرت الأيام، واستمرت عجلة الزمن في دورانها. وذات صباح، حل بمقر إقامة المسنين زائران، وصادف أن تزامن حضورهما مع مغادرة الطبيب غرفة والدهما-العم حسن- بعد إجراء فحص عليه. دخل الزائران وقد استبدت بهما حالة شديدة من الشك والريبة، والتساؤلات الحائرة. وما لبث أحدهما أن سارع بإلقاء التحية:

 __ جئنا لزيارتك والسؤال عن أحوالك يا أبي.

لم يلتفت عم حسن الى ذينك الواقفين، ولم يكن لديه أي إحساس بوجودهما بالقرب منه، بل أنه ظل واجما، تاركا إياهما في انتظار الرد دون جدوى. عيناه كانتا تائهتين، تحملقان في سقف الغرفة حينا، وتدوران بسرعة غريبة حينا آخر.

فجأة، تنحنح، وسعل، ثم ما لبث أن تفوه بصوت مبحوح:

__ زوجتي، أم أبنائي لن تتأخر في القدوم، وغيابها لن يطول.

تسمر الزائران في مكانهما، لم ينبسا ببنت شفة، وظلا يتبادلان نظرات ملتبسة بالأسى والحسرة. لقد اتضحت الصورة أمامهما، وانجلى الغموض، بيد أن الموقف كان أصعب وأشد وقعا من وجع الندم الذي أصابهما.