مجرد رأي

من داخل الحي الهادئ

هيثم مصطفى
هيثم مصطفى

من‭ ‬داخل‭ ‬نبض‭ ‬العاصمة،‭ ‬وفي‭ ‬الأحياء‭ ‬الراقية‭ ‬القديمة‭ ‬جاءت‭ ‬ترنيمة‭ ‬السلام‭ ‬للمخرج‭ ‬والكاتب‭ ‬أحمد‭ ‬عبدالله،‭ ‬وخرج‭ ‬لنا‭ ‬فيلم‭ ‬“19‭ ‬ب”‭ ‬كموسيقى‭ ‬كلاسيكية‭ ‬لها‭ ‬حنينها‭ ‬الدافيء‭ ‬و”النوستولجيا”‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬ينكرها‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬وشاهد‭ ‬ضواحيها‭ ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬الكلاسيكي،‭ ‬فالفيلم‭ ‬من‭ ‬بطولة‭ ‬الفنان‭ ‬القدير‭ ‬سيد‭ ‬رجب‭ ‬ولفيف‭ ‬من‭ ‬النجوم‭ ‬مثل‭ ‬الفنانة‭ ‬ناهد‭ ‬السباعي‭ ‬وأحمد‭ ‬خالد‭ ‬صالح‭ ‬وفدوى‭ ‬عابد‭ ‬وكذلك‭ ‬الظهور‭ ‬المميز‭ ‬للفنان‭ ‬القدير‭ ‬صبري‭ ‬عبدالمنعم،‭ ‬ومن‭ ‬إنتاج‭ ‬شركة‭ ‬“فيلم‭ ‬كلينك”‭ ‬ومنصة‭ ‬“شاهد”‭.‬

الفيلم‭ ‬يحكي‭ ‬عن‭ ‬حارس‭ ‬عقار‭ ‬عجوز‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬فيلا‭ ‬هجرها‭ ‬ملاكها‭ ‬منذ‭ ‬الستينات،‭ ‬ليصير‭ ‬متعايشًا‭ ‬مع‭ ‬المكان‭ ‬فيصير‭ ‬مثله‭ ‬ومنه‭ ‬وله،‭ ‬وتعايشه‭ ‬معه‭ ‬قد‭ ‬صنع‭ ‬لديه‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الترابط‭ ‬جعلته‭ ‬لا‭ ‬يتحمل‭ ‬فكرة‭ ‬البعد‭ ‬عن‭ ‬العقار،‭ ‬فلقد‭ ‬عاش‭ ‬بالعقار‭ ‬جل‭ ‬عمره،‭ ‬وشاهد‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬أسوارها‭ ‬المتهالكة،‭ ‬رافضًا‭ ‬بأي‭ ‬حال‭ ‬التنازل‭ ‬عن‭ ‬حراسة‭ ‬المكان،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الإختلاط‭ ‬بالبشر،‭ ‬مفضلًا‭ ‬القطط‭ ‬والكلاب‭ ‬عن‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬البشر‭ ‬بشكلٍ‭ ‬كبير‭.‬

الجميل‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬تصوير‭ ‬فكرة‭ ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬الحراسة‭ ‬والمحافظة‭ ‬على‭ ‬العقار‭ ‬رغم‭ ‬انقطاع‭ ‬أخبار‭ ‬الورثة،‭ ‬وكثرة‭ ‬إلحاح‭ ‬ابنته‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يترك‭ ‬المكان‭ ‬ليعيش‭ ‬معها،‭ ‬فلقد‭ ‬اعتبر‭ ‬أنه‭ ‬جزءًا‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬ذاك‭ ‬العقار‭ ‬القديم‭ ‬المتهالك‭ ‬الآيل‭ ‬للسقوط،‭ ‬فالوحدة‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬قد‭ ‬آنسته،‭ ‬بحال‭ ‬كره‭ ‬فكرة‭ ‬قيام‭ ‬منادي‭ ‬السيارات‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يشاركه‭ ‬المكان‭.‬

الفيلم‭ ‬قدم‭ ‬فكرة‭ ‬صراع‭ ‬الأجيال‭ ‬وفكرة‭ ‬تصادم‭ ‬الأزمنة،‭ ‬فالماضي‭ ‬رغم‭ ‬عتاقته‭ ‬وتهاويه‭ ‬لازال‭ ‬قادرًا‭ ‬على‭ ‬مضارة‭ ‬الحاضر‭ ‬بكل‭ ‬جراحه‭ ‬وآلامه،‭ ‬بل‭ ‬ويمكنه‭ ‬استكمال‭ ‬الأمر‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يوقفه‭ ‬أي‭ ‬حداثة،‭ ‬ولنا‭ ‬في‭ ‬أهراماتنا‭ ‬أسوة‭ ‬حية‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭.‬

ولعل‭ ‬ما‭ ‬حرص‭ ‬عليه‭ ‬صناع‭ ‬الفيلم‭ ‬من‭ ‬استخدام‭ ‬الأغاني‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬لعمالقة‭ ‬الغناء‭ ‬مثل‭ ‬محمد‭ ‬عبدالمطلب‭ ‬وأم‭ ‬كلثوم‭ ‬وأسمهان‭ ‬وغيرهم‭ ‬كان‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أصداء‭ ‬الروح‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬كانت‭ ‬تنبع‭ ‬من‭ ‬عبق‭ ‬الماضي،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬كافة‭ ‬مرافق‭ ‬الفيلا‭ ‬المتهالكة‭ ‬والتي‭ ‬عفا‭ ‬عنها‭ ‬الزمن‭ ‬لازالت‭ ‬بخيرها،‭ ‬ولا‭ ‬يفهمها‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬عاصرها‭ ‬وعاشها،‭ ‬وظهر‭ ‬هذا‭ ‬جليًا‭ ‬في‭ ‬مشاكل‭ ‬الكهرباء‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تظهر‭ ‬كثيرًا‭ ‬ضمن‭ ‬سياق‭ ‬الفيلم‭.‬

والرأي‭ ‬جاء‭ ‬بأن‭ ‬الفيلم‭ ‬لم‭ ‬يقدم‭ ‬سوى‭ ‬البساطة‭ ‬في‭ ‬الأداء‭ ‬والتكاليف‭ ‬والمناظر،‭ ‬فلم‭ ‬نرى‭ ‬لغة‭ ‬تختلف‭ ‬عما‭ ‬نعرفه‭ ‬من‭ ‬كلمات‭ ‬متداولة،‭ ‬ولم‭ ‬يقدم‭ ‬الفيلم‭ ‬النظرة‭ ‬التجارية‭ ‬التي‭ ‬تعلي‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬البلطجي‭ ‬وتصنع‭ ‬منه‭ ‬نموذجًا‭ ‬راقيًا‭.. ‬بل‭ ‬قدم‭ ‬الصح‭ ‬والخطأ‭ ‬دون‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬أية‭ ‬تفاصيل‭ ‬أخرى‭!!‬

“19‭ ‬ب”‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬عنوان‭ ‬العقار‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬رمزًا‭ ‬رأيناه‭ ‬مرارًا‭ ‬ومهجورًا،‭ ‬وقد‭ ‬حاول‭ ‬أحمد‭ ‬عبدالله‭ ‬وباقي‭ ‬طاقم‭ ‬العمل‭ ‬من‭ ‬إنتاج‭  ‬في‭ ‬ترسيخه‭ ‬وهو‭ ‬العودة‭ ‬للأصالة،‭ ‬ففي‭ ‬الأصالة‭ ‬بساطة‭ ‬تغنينا‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬افتعال‭ ‬أو‭ ‬انتهاج‭ ‬لثقافة‭ ‬لا‭ ‬تمثلنا‭.‬

ولعل‭ ‬جوائز‭ ‬مهرجان‭ ‬القاهرة‭ ‬السينمائي‭ ‬في‭ ‬دورته‭ ‬الرابعة‭ ‬والأربعين‭ ‬قد‭ ‬منحت‭ ‬لجمال‭ ‬تلك‭ ‬الأفكار‭ ‬البسيطة‭ ‬والمباشرة‭ ‬ليصير‭ ‬للفيلم‭ ‬مكانته‭ ‬الأدبية‭ ‬والتي‭ ‬لم‭ ‬يلتفت‭ ‬صناعه‭ ‬لأية‭ ‬معاير‭ ‬تجارية‭.. ‬فلقد‭ ‬فاز‭ ‬المنتج‭ ‬محمد‭ ‬حفظي‭ ‬بجائزة‭ ‬أفضل‭ ‬فيلم‭ ‬عربي،‭ ‬وأيضًا‭ ‬حاز‭ ‬الفيلم‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬لجنة الاتحاد‭ ‬الدولي‭ ‬للنقاد‭ ‬السينمائيين،‭ ‬وحصد‭ ‬مدير‭ ‬التصوير مصطفى‭ ‬الكاشف على‭ ‬جائزة‭ ‬“هنري‭ ‬بركات‭ ‬لأفضل‭ ‬إسهام‭ ‬فني”‭. ‬

وفي‭ ‬النهاية‭ ‬نقول‭ ‬بأن‭ ‬للفن‭ ‬رسالة‭.. ‬وقد‭ ‬قدمها‭ ‬الفيلم‭ ‬لنا‭ ‬بإقتدار‭.‬


 

 

 

;