كنوز| سكرتيرة برنارد شو تروى 30 سنة من حياته وعلاقته بأينشتاين ونهرو

الزعيم الهندى نهرو فى ضيافة برنارد شو
الزعيم الهندى نهرو فى ضيافة برنارد شو

فى شهر مارس من عام 1951 ظهر فى العاصمة البريطانية كتاب عن الفيلسوف الساخر جورج برنارد شو بقلم سكرتيرته «باتش» التى عملت معه ثلاثين عاما متواصلة.

ولما مات الكاتب العظيم جرت دور النشر بعروضها المغرية وراء سكرتيرته لتكتب قصة أعوامها الثلاثين معه باعتبارها مخزن أسراره. 
بدأت السكرتيرة «باتش» عملها فى المنزل رقم «10 ادلفى تيراس» الذى كان «شو» يعيش مع زوجته «شارلوت» التى ارتبط بها عام 1868، وكان يقضيان آخر الأسبوع فى منزلهما بالريف، وبعد وفاة زوجته استقر فى قرية هادئة ومنعزلة عن العمران تاركا شقته الأنيقة فى لندن للسكرتيرة، كان يعزف فى بيته الريفى على البيانو وطلقات المدافع تدوى أثناء الغارات الألمانية، وذات يوم سقطت قنبلة أتلفت عددا من رواياته المؤمن عليها وصرف التعويض.

وتقول السكرتيرة «باتش» إن برنارد شو إذا جلس للكتابة فهو يكره إزعاج الزائرين، على مكتبه قنينة الحبر الأحمر لتصحيح الأخطاء، والصمغ والمنبه الذى يلفت انتباهه لموعد الغداء، يبدأ القراءة والكتابة فى العاشرة، ويستريح بعد الظهر، ويكتب ويقرأ لمدة ساعة قبل العشاء، ويأوى إلى فراشه فى الحادية عشرة، وبعد وفاة زوجته كان يستمع للمذياع ويكتب ويقرأ فى غرفة الطعام، ويذهب إلى فراشه قبل منتصف الليل، وأول قصة مسرحية أعطاها للسكرتيرة لتكتبها على الآلة الكاتبة هى «جان دارك» التى قال النقاد إنها أفضل مسرحياته، وحين سئل عن أفضل أعماله قال «سوف أدلى برأى فى ذلك يوم القيامة»!

كان برنارد شو يكتب على ورق مسطر أخضر اللون لراحة البصر، وكان يحفظ عدد الكلمات التى يكتبها فى كل مسرحية، وكان يرسل خمسين نسخة للفرقة التى ستمثل المسرحية، ويحضر البروفات مع الممثلين وكان له رأى فى اختيارهم، وكانت زوجته تميل إلى السفر حول العالم، وهو يكره السفر، وإذا سافرت معه تأخذ قائمة بالأطعمة التى يأكلها، لأنه كان نباتيا ولا يدخن ولا يشرب الشاى والقهوة والخمر، فإذا نزلا فى فندق سلمت القائمة لإدارة المطعم لإعداد الطعام المناسب له. 

وتقول سكرتيرته فى كتابها إن لورانس العرب تعرف على «شو» عندما جاء لشراء رسم لبرنارد شو بريشة الفنان الإنجليزى «أغسطس جونش» فأصبحا صديقين من اللحظة الأولى، بعث لورانس إلى شو بكتابه «أعمدة الحكمة السبعة» الذى قرأه «شو» فى ثلاثة شهور، وأرسل إلى لورانس يقول له «إنه كتاب عظيم»، ونصحه بحذف المقدمة، وقد اختار «شو» شخصية لورانس فى إحدى مسرحياته، وتقول أيضا إن برنارد شو عندما علم بوجود الزعيم الهندى «نهرو» فى لندن ربيع 1949، دعاه إلى مقابلته فى الصباح، مخالفا القاعدة التى سار عليها فى استقبال الزوار فى المساء، ولما تقابلا تحدثا فى موضوعات كثيرة، من الديانة الهندية إلى عدد ثمار «المانجو» التى يستطيع المرء أن يلتهمها، وعدم قدرة الروس على استخدم القنبلة الذرية فى الحرب لأنها سلاح ذو حدين.
وتقول سكرتيرة برنارد شو إن الرسائل كانت تصل إلى صندوق بريده بالآلاف من جميع أنحاء العالم، فكان يترك له مهمة الرد على الرسائل العادية، ويرد هو بخطه على الرسائل الخاصة، وكان يقول «لولا هذه الرسائل لأمكننى تأليف عشرين رواية، ولو كانت هذه الرسائل فى عصر شكسبير لقلّ إنتاجه كثيرا»، وكان له رأى فى الأمريكان، لم يكن يكرههم ولكنه كان يقول إن 90% من الأمريكان حمقى، مع أن رواج مسرحياته فى أمريكا كان يدرّ عليه أموالا طائلة، وكان أحد مديرى المسارح يملك مزرعة للخنازير فأرسل لشو لحوما بقيمة نصيبه فى الأرباح، فكتب إليه «ألست تعلم أنى نباتيا يا قصاب الخنازير؟».
وتقول فى كتابها أيضا إن برنارد شو دعا العالم الكبير ألبرت آينشتاين إلى حفل غداء مع عدد كبير من العظماء، وأعد خطابا يلقيه بالحفل، وصف فيه آينشتاين بأنه عظيم بين عظماء، وإذا كان نابليون وأمثاله قد شيدوا إمبراطوريات، فإن آينشتاين من طائفة شيدت عوالم دون أن تتضرج أيديهم بدم بشرى، ورد عليه آينشتاين بالألمانية قائلا «إن ما عمله مستر شو لا يقدر على النهوض به غير فنان مطبوع.. فمن صندوق لعبه قد أخرج لنا دمى لا عداد لها، تشبه الناس، ولكن ليست من لحم ودم، هى من روح، وفطنة ورشاقة..

فإذا أمسك المرآة أمامنا استطاع المستر شو أن يحررنا، وينتزع منا بعض أعباء الحياة».

كان برنارد شو - كما تقول سكرتيرته - لا يهتم بالمال، وكان يود أن يتاح لكل فرد نصيب مساوٍ للآخر، ولم يلتفت إلى حالة الغلاء التى سايرت الحرب، واستبدت به فكرة ضريبة الدخل فأخذ فى الاقتصاد الشديد فى ملبسه ومظهره، وقد أصيب بالجدرى الذى جعله يطلق لحيته، ومع ذلك ظل طوال حياته يتمتع بصحة جيدة، وذاكرة قوية حتى بعد التسعين، لكن سمعه قد ثقل قليلا، وكان نظره جيدا، ولا يلبس النظارة إلا حين يقرأ، واتضح أنه كان مصابا بعمى الألوان حين أرسلت له إحدى المعجبات «كوفية» خضراء، فظن أنها زرقاء اللون وصححت له سكرتيرته حقيقة اللون.

وأصيب شو بمرض الأنيميا، وحقنه الأطباء بخلاصة كبد الخنزير، فسقط مغشيا عليه أثناء الحقن، واستبدلت الحقن بتناول الدواء بالفم، ومن مميزاته أنه يكون هادئ النفس فى حالة المرض، ولعل هدوء نفسه من أسباب طول عمره، وكان يقول «إن الصحة من عمل الحكمة»، وحكمته فى الغداء هى أن يأكل ما يرغب فيه وإذا لم يجده قنع بدونه، وكان وزنه لا يزيد، وعندما قابله المخرج البدين هتشكوك قال له «من يراك يا مستر شو سيظن أن فى البلد مجاعة»، فرد عليه قائلا «ومن يراك يا مستر هتشكوك يعرف من السبب فى هذه المجاعة!»، وكان يرى أن أكل اللحوم يعد ترفا خبيثا، ويرى أن إطعام التلاميذ فى المدارس لحوماً إسراف سخيف وتحريض لهم على الذبح وسفك الدماء. 

لم يكن برنارد شو مفتونا بالألقاب وأمور الدنيا البراقة، فعندما أراد رمزى ماكدونالد منحه «وسام الجدارة» قال إنه قد منحه لنفسه من زمن، ولما عرضت عليه جائزة نوبل للآداب عام 1925 رفض «الشيك» قائلا «إن قرّاءه وكتبه ونظارة مسرحياته قد كفلوا له النهوض بمطالبه، ورأى أن يخصص المبلغ لتوثيق الروابط الأدبية بين البلدين»، وقال إن بريطانيا تستورد الورق من السويد، ولكنه ورق غير مكتوب، كأنما صنع للف التفاح الأسترالى فقط، إننا نستورد أهم واردات السويد التى هى آدابها، والتى نجهلها فى بريطانيا جهلا محزنا».

كان برنارد شو صريحا عندما تحدث عن ملوك انجلترا، فعندما جلس الملك جورج السادس على العرش اقترح أن تؤلف «جمعية للرفق بالشخصيات الملكية»، وانتقد الملك جورج الخامس، وقال إنه دل على ذوق متواضع حين ذهب لحضور حفلة سباق الخيل، وتخلف عن افتتاح المسرح التذكارى لشكسبير!

لم تكن لبرنارد شو غراميات ملتهبة، فلم تتجاوزعلاقته بالممثلة «كاميل» أبعد من تبادل الرسائل، وكان يخاف الاختلاء بالمرأة حتى آخر أيامه، وقال عن الطريقة التى تزوج بها إنه كان مصابا فى قدمه فدخلت عليه «شارلوت» وطلبت إليه الانتقال إلى منزلها كى ترعاه فاحتج على ذلك قائلا «اذهبى واحضرى قسيمة زواج، من المستحيل لامرأة فى مثل مركزك أن تؤوى رجلا بمفرده فى منزلها»!.

لم يقل برنارد شو فى مسرحياته ومقالاته كل ما يريد وأشد ناقديه وألدّ خصوم، يعترفون له بالذكاء والعظمة والبداهة، ويعترفون بأنه سيد النشر الإنجليزى بغير منازع، وحين أحسّ بالموت، لم يكن آسفا على جورج برنارد شو الإنسان الذى ملّ الحياة، لكنه كان آسفا لأن الوقت كان يلاحقه، ولا يترك لقلمه الفرصة ليقول ما كان يرغب فى أن يقوله! 

«آخر ساعة» مارس 1951