«نهاية سي السيد» قصة قصيرة للكاتب الدكتور صلاح البسيوني

الكاتب الدكتور صلاح البسيوني
الكاتب الدكتور صلاح البسيوني

سي السيد هنا ليس السيد أحمد عبد الجواد الشهير في ثلاثية نجيب محفوظ، الذى اتخذ رمزا لتسلط الرجل وسطوته.

 

ولكنه هنا السيد عامر موظف الأرشيف بوزارة المالية، الذي أنهكته سنين الخدمة الطويلة بغرفة الأرشيف المعتمة والدوسيهات المتناثرة هنا وهناك، وأكسبه البحث عن الدوسيهات انحناءة ملحوظة في جسده ونظارة طبية أمام عينيه.

 

 وعندما يأتي موعد انصراف الموظفين من العمل، يهرب السيد عامر فورا الى الطريق بطريقة لا تتناسب مع سنه وحالته الصحية، يحشر جسده النحيل بين الأجساد المتصارعة على مكان لقدم داخل الأتوبيس، يستحث السائق على السير، يلعن شرطي المرور الذى يتسبب دائما في تعطيل حركة المرور كلما حان موعد عودته اليومي، وقبل أن يتوقف الأتوبيس في محطته، يقفز منه متناسيا عمره الذى اقترب من الخمسين .

 

 يسرع الخطى الى المنزل الرابع على اليمين، يصعد درجات السلم، يفتح الباب ويدخل في صمت، يسمع خطوات صغيره آخر العنقود، وهو يجري ناحيته صائحا بابا، بابا، إعلانا عن وصوله، وترحيبا بقدومه، يطالعه وجه زوجته المكفهر كالمعتاد، الساخطة على كل شيء، وعلى أي شيء، تأخرت ليه، بقى يا راجل مش عارف تجيب معاك أي حاجة تفرح بيها العيال، الفاكهة ماليه السوق، الساقع أشكال وألوان في الثلاجات، خلاص محصلتش أقل الناس اللي داخله على بيوتها بأكياس الفاكهة، شاطر بس رايح فين ؟ رايح الشغل ، وجاى منين ؟ جاى من الشغل، يا فرحتى بيك وبالشغل!

 

يستمع لأسطوانتها المشروخة التي ترددها في كل لحظة بدون مناسبة، متناسية أنه موظف محدود الدخل، مرتبه محدود، ومعلوم، ومرصود، ومهزوم، يفيق من تفكيره ولازال صراخها يملأ أرجاء المكان والأماكن المجاورة، تتدفق الدماء فى عروقه، تزداد ثورة الغضب الكامن في داخله على مدى ثلاثين عاما هم عمر زواجه، تطفو على السطح، وتظهر الشياطين الكامنة بداخله أمام عينيه تتراقص .

 

 يتجه ناحيتها في غضب عارم، يرفع يده اليمنى عالية ليهوى بها بكل قوة على وجهها، يسمع صوت صغيره آخر العنقود وهو يصرخ بابا، بابا حبيبي، فتتوقف يده في منتصف الطريق، ثم تتكور، وتتجه في سرعة، وقوة، منحرفة إلى الحائط المقابل مرتطمة به، مسببة ألم قاسى في مفصل يده لم يبال به، وتتحول نظراته سريعا الى اتجاه صغيره وقد تبدلت الى نظرة حانية.

 

يمد اليه يده ليرفعه عن الأرض، ويضمه الى صدره بقوة، منفثا عن الغضب الكامن بداخله، أو محتميا فى أحضانه من عواقب غضبه، ينهال عليه بالقبلات، وفى هذه اللحظة يسمع زوجته وهى لازالت في صراخها، تسخر من محاولاته المستمرة في النيل منها وتأديبها، وأنه في كل مرة يحتمى بطفله، ليداري عجزه عن أن ينال شعرة من رأسها، وأن الكلمة هنا كلمتها، والبيت بيتها، ولا شيء هنا يخصه، ولا حاجة لهم فيه،  والصراخ يرتفع، والعويل يحيل الكلمات إلى طنين يصم الآذان .

 

يتجه الى غرفة نومه، يخلع ملابسه يرتدى الجلابية، يأخذ صغيره في حضنه، ويصعد إلى سريره، ليناما سويا.

وإلى هنا تنتهي مأساة السيد عامر التي تتكرر يوميا معه، وتتكرر آلاف المرات مع آخرين في أماكن أخرى.

 فماذا يحدث لو عاد السيد أحمد عبد الجواد إلى الحياه وقدر له أن يرى أحفاده في هذا العصر؟ .

ماذا سيحدث له عندما يرى بعينه في هذا القرن نهاية سي السيد ؟.