خواطر الإمام الشعراوي .. الطمع أساس الاختلاف

الإمام الشعراوي
الإمام الشعراوي

يبدأ الشيخ الشعراوى خواطره حول الآية 213 من سورة البقرة «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ».

لقائل أن يقول: إذا كان الناس أمة واحدة، وقد رتب الله بعث وإرسال النبيين على كونهم أمة واحدة؛ فمن أين إذن جاء الخلاف إلى حياة الناس؟ ونقول: لابد أن تُحمل هذه الآية المجملة على آية أخرى مفصلة فى قوله تعالى: «وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» «يونس: 19».

لابد لنا إذن أن نأخذ هذه الآية فى ظل آية سورة يونس؛ فالحق سبحانه وتعالى ساعة يخاطب العقل البشرى يريد أن يخاطبه خطابا يوقظ فيه عقله وفكره حتى يستقبل كلام الله بجماع تفكيره، وأن يكون القرآن كله حاضرًا فى ذهنك، ويخدم بعضه بعضا. «كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين». فقبل بعث الله النبيين كان الناس أمة واحدة يتبعون آدم، وقد بلغ الحق آدم المنهج بعد أن اجتباه وهداه، وعلم آدم أبناءه منهج الله، فظل الناس من أبنائه على إيمان بعقيدة واحدة، ولم ينشأ عندهم ما يوجب اختلاف أهوائهم، فالعالم كان واسعًا، وكانت القلة السكانية فيه هى آدم وأولاده فقط، وكان خير العالم يتسع للموجودين جميعا.

إذن لا تطاحن على شيء، ومن يريد شيئًا يأخذه، وكانت الملكية مشاعة للجميع؛ لأنه لم تكن هناك ملكية لأحد؛ فمن يريد أن يبنى بيتا فله أن يبنيه ولو على عشرين فدانا، ومن يريد أن يأكل فاكهة أو يأخذ ثمرًا من أى بستان فله أن يأخذ ما يريد. والمثال على ذلك فى حياتنا اليومية، هناك رب الأسرة الذى يأتى بعشرين كيلو برتقالا ويتركها أمام أولاده، وكل طفل يريد برتقالة أو أكثر فهو يأخذ ما يريد بلا حرج، لكن لو اشترى رب البيت كيلو برتقال واحد فكل طفل يأخذ برتقالة واحدة فقط.

إذن كان الناس أمة واحدة، أى لم توجد الأطماع، ولم يوجد حب الاستئثار بالمنافع مما يجعلهم يختلفون. إذن فأساس الاختلاف هو الطمع فى متاع الدنيا، ومن هنا ينشأ الهوى. وكان من المفروض فى آدم عليه السلام بعد أن بلغه الله المنهج أن يبلغه لأولاده، وأن يتقبل أبناؤه المنهج، ولكن بعض أولاده تمرد على المنهج، ونشأ حب الاستئثار من ضيق المُسْتَأثر والمُنْتَفع به، ومن هنا نشأت الخلافات. ولنا فى قصة هابيل وقابيل ما يوضح ذلك: «واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنى ءَادَمَ بالحق إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين» «المائدة: 27».

ونعرف أن آدم وحواء هما أصل الوجود، حواء تلد توأمين فى كل مرة، وأراد آدم أن يزوجهم فكيف تكون المزاوجة وهم جميعًا أبناؤه وأبناء عصر واحد؟ وكل منهم يعرف أن الذى أمامه هو أخوه. لقد واجه الشرع تلك المشكلة فى ذلك الوقت، واعتبر أن البعد هو بعد البطن، أى أن الذى يولد مع أخيه فى بطن واحد فهو أخوه، أما الذى وُلد بعده أو قبله فكأنه ليس أخاه، لذلك كان آدم وحواء يبادلان زواج الأبناء حسب ابتعاد البطون، وكان الغرض من هذا التباعد أن تكون المرأة وكأنها أجنبية عن أخيها.

روى عن ابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهما: (أن آدم كان يزوج ذكر كل بطن بأنثى الآخر، وأن هابيل أراد أن يتزوج أخت قابيل وكان أكبر من هابيل وأخت قابيل أحسن فأراد قابيل أن يستأثر بها على أخيه.

وأمره آدم عليه السلام أن يزوجه إياها فأبى، فأمرهما أن يقربا قربانًا فقرب هابيل جذعة سمينة وكان صاحب غنم، وقرب قابيل حزمة من زرع من رديء زرعه فنزلت نارُ فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي، فقال: «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين».

إذن، كان ميلاد أول خلاف بين البشر حينما تنافس اثنان للاستئثار بمنفعة ما، وكان هذا مثالا واضحًا لما يمكن أن يحدث عندما تضيق المنافذ عن الأطماع. «كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً» لكنهم اختلفوا لحظة الاستئثار بالمنافع، وأصبح لكل إنسان هوى.

ولو شاء الله أن يجعل منهجه لآدم منهجًا دائمًا إلى أن تقوم الساعة لفعل. لكنه سبحانه برحمته يعلم أنه خلقنا، ويعلم أننا نعقل مرة ونسهو مرة، ونلتزم مرة، ونهمل مرة أخرى، فشاء الله أن يواصل لخلقه مواكب الرسل.

ولذلك يأتى قول الحق: «فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ». ومهمة التبشير والإنذار هى أن يتذكر الناس أن هناك جنة ونارًا، ولذلك يبشر كل رسول مَنْ آمن من قومه بالجنة، وينذر مَنْ كفر من هؤلاء القوم بالنار.