«طائــر الليـــل» قصة قصيرة للكاتب محمد عبد الحافظ ناصف

الكاتب محمد عبد الحافظ ناصف
الكاتب محمد عبد الحافظ ناصف

حلق طائر قبيل المغرب وزقزق زقزقة طويلة ومضى فأخذ قلبي معه.

تقول جدتي إن صوته يعني قدوم غريب أو رحيل عزيز من المكان، كنت أحبه لما كان يزقزق منذ عامين حين كان أخي الكبير على الجبهة في السويس يحارب العدو الإسرائيلي،كنت أجري مسرعا لأمي وجدتي العجوز كي أبلغهما أنا وصديقي شريف أنني سمعت الطائر يزقزق في الغيطان، والغريب أن أخي كان يأتي خلال ساعات مرتديا بذلته العسكرية فيقبلني ويحتضن شريف بدفء مثلي وأكثر ويقول له:

هانت يا شريف، سترجع بورسعيد قريبا.

لم أكن أفهم ماذا يقصد ولماذا يرجع بورسعيد ويتركني وحيدا في المحلة، لكن شريف كان يتجاوب معه ويرفع يديه داعياً بحماس كبير وشوق أكبر:

يا رب

وآخذ شريف على جنب وأسأله إن كان غضبان مني في شيء، ولماذا يريد أن يرجع؟ وإلى أين يرجع؟ فيبتسم قائلاً:

بورسعيد.

وأقول له حزينا:

- حرام عليك.

ويفسر لي أبي الشيخ الكبير وهو يبتسم ويربت على كتفي ويمسح رأسي ورأس شريف ويقول في رجاء وبأمنيات حارة:

- سيرجع لما نغلب إسرائيل ويعود أخوك الكبير نهائياً من الجبهة.

أتساءل دون إجابة وأقول: حتى أبي يريد أن يعود شريف لبورسعيد ويتركني وحيدا ألعب بمفردي، يسبقني شريف إلى الجرن الواسع ويحضر الحطب ويصنع سيفين؛ واحدا لي وآخر له، نتبارز كفرسان العرب الذين نراهم في الأفلام العربية القديمة بقوة شديدة وبحماس منقطع النظير، كان يأخذه الحماس أحياناً فيصيب بعض العيال بسيفه الخشبي فيبكون وتتوقف المعركة بعض الوقت، ثم تبدأ معركة أخرى بين الأمهات نكون نحن فيها قد تصالحنا وذهبنا نجلس معا بجوار سور المستعمرة، فيحكي لنا عن الطائرات التي كانت تقذف بيوتهم بشدة وعن عم مسعد الذي أسر طياراً إسرائيلياً وظل يضربه على قفاه حتى أحمر وصار مثل مؤخرة القرد الذي يحضره لنا فوزي الحاوي، ونضحك حتى يغلب ضحكنا صراخ الأمهات فيبحثن عنا، ونُضرب علقة ساخنة بعد أن تقول لهم خالتي نفيسة التي لا تخلف وتعتبرنا جميعا أبناءها، وبالرغم من ذلك تفتن علينا وهي تضحك حتى تغيظ أمهاتنا، ثم تخطف أحدا وتضع رجليها على يديه وصدره فيكون كذكر البط حين يزغط رغما عنه وتملأ عينيه بكحل أسواني حراق شديد، ويقوم بعد ذلك يجري في الشارع بعد أن يسبها ليغسل عينيه حتى لا يصير أضحوكة العيال في الشارع وتعايره البنات ثم تقول للنسوان:

    - والله أنتم نسوان هبل، دول عيال يصوتوا ويعيطوا في لحظة.

ثم يرتخي صوته فجأة ويصير شجيا ويغني أغنية بورسعيدية.

يا بورسعيد رجعينلك، دا قلوبنا مشتاقة لضلك

ويقول بأسي وشوق:

نفسي أرجع بورسعيد يا عيال، نفسي أجري في شوارع كسرى والمقدس تاني.

أقول له مغتاظا:

  - يعني مش عجباك المحلة يا شريف؟

  - عجباني جدا وبحبها، بس بحب بلدي بورسعيد زي ما أنت ما بتحب بلدكم وبتحب تزور جدك في المنوفية.

ويقف شريف فجأة ويصيح دون سابق إنذار:

خلي السلاح صاحي.. صاحي

لو نامت الدنيا صحيت مع سلاحي

نردّد معه بقوة هادرة ونعود وننام نحلم ونحن نقتل الأعداء بسيوفنا الخشبية.

زقزق الطائر لما عاد مرة ثانية قبيل العشاء، ترى لماذا يزقزق فقد انتهت الحرب وأخي لم يعد يحارب أحداً حتى ننتظر عودته، أكل قلبي خوف ما، فقد سمعت جدة الولد علي الدجوي أن صوت الطائر يعني أيضا شيئا غير طيب وقد يكون حزينا سيحدث!!

- هل سيرحل أحدٌ أحبه؟

جلست على عتبة بيتنا الذي يتكون من ثلاثة أدوار يسكن في الدور الثاني والثالث مهاجرون من السويس وبورسعيد، اخترقت سيارة بيجو حمراء هدوء شارعنا، كانت محملة بأمتعة كثيرة، ترى من جاء لحارتنا الآن داخل تلك السيارة التي توقفت بجواري؟ نزل منها رجل يرتدي قبعة مثل قبعات الخواجات في أفلام الكاوبوي في سينما النصر ومثل تجار بورسعيد في شارع العباسي القديم، رفع الرجل القبعة وصاح:

- واد يا محمد، مش عارف عمك الطيب يا ولد، خسارة فيك الكرة الهدية.

قفزت عليه واحتضنته وقبلني بحرارة وحبة شديدة، سألني بلهفة:

أخبار صاحبك شريف إيه؟

كويس جدا.

ثم أسرعت أقطع درجات السلم لاهثاً وأنا أصيح عالياً:

يا شريف، يا شريف، أبوك جه من اليونان.

قطع شريف درجات السلم دفعة واحدة، كقرد تعلق في رقبة والده وتبعته البنت سارة صاحبة الشعر الأسود المسترسل التي كنا نقيم معارك مع عيال الشوارع الأخرى بسبب الفساتين الجميلة التي كانت ترتديها وشجاعتها في مهاجمة الصبيان وتنظيفها الدائم للشارع، فكم أزرقت العينين وكسرت بعض أسناني في الدفاع عنها، أخذهما في حضنه وصعد يجرجر الحقائب التي وضعها السائق بجوار البيت، حملت معهم بعض الأشياء ونزلت مسرعاً  كي أغلق الباب المفتوح على مصراعيه، فكم أحب الأبواب المغلقة التي تمنع الشر كما يقول أبي، قد يكون ذلك لأن بابنا دائما مفتوح، قال أبي وهو ذاهب لصلاة العشاء بحنو:

ادخل نام يا محمد.

نهضت وما زال صوت الطائر الذي يزقزق يرن في أذني عاليا، وما زال يطرح بداخلي نفس السؤال، من سيرحل من شارعنا؟ لم أكن أتصور أن يرحل أبي ويتركني وحيداً رغم أن آباء لأصدقاء كثيرين رحلوا عن دنيانا منذ سنوات، جرجرت قدمي إلى الداخل وارتميت على أقرب سرير يقابلني، يطاردني صوت الطائر.

الملك لك يا صاحب الملك.

يوقظني دائماً صوته، فقرب بيتنا من الحقول ينعم على بأصوات الطيور كلها صباحاً ومساءً، فأحلق معها وأفهم لغتها التي تشجي أذني، خرجت من البيت إلى الشارع، جلست أستقبل خيوط الشمس الضعيفة وأنا جالس أمام عتبة الدار، نهضت أمشي، صعدت شجرة التوت السمراء التي تلون يدي وشفتي وتصبغ شفتي سارة بلون يجعلها رائعة مثل النساء، لصوتها نبرة رائعة حين تغني:

وأنا على الربابة بغني.

نقول لها جميعاً في صوت واحد في صالة بيتنا الضيقة التي تمتلئ بعيال البيت:

أحلي من وردة.

تتجمع الفتيات حولها وتحكي لهن عن حورية البحر، وكيف أنها تأخذ البحارة لأسفل كي يعيشوا معها في بلاد الجان، تسألها أختي الصغيرة:

هل حورية البحر مثل جنية الترعة؟

نعم.

أقول لها بسرعة تغيظ سارة مني، أحزن حين يسافرون إلى بورسعيد لقضاء بعض الأيام وأفرح حين يعودون بحكايتهم الجميلة عن البحر، قررت العودة للبيت بعد أن أكلت من شجرة التوت كثيراً وشربت من الطلمبة التي تحت الثلاث نخلات.

بعد عدة أيام من عودة العم الطيب، وجدت عربة نقل كبيرة تحتل شارعنا، يقف عم الطيب فوقها ويرفع له أبي بعض الأثاث، كان شريف وسارة وبعض أقاربهم من المهاجرين يحملون معهم بعض الأثاث الخفيف، لم أكن أدري ماذا يحدث لكن شيئاً مخيفا ما تحرك بداخلي، لم أدر ما هو، اقتربت في بطء، أحست بتثاقل قدمي، هل سيتركون حجرتنا إلى شقة واسعة كما سمعت من قبل؟ تقول جدتي إن المحبة توسع المكان، ما أقسى أن يرحلوا من بيتنا إلى بيت آخر، ولماذا لم يقل لي شريف؟ هل يريد أن يجعلها لي مفاجأة مؤلمة لأنني اختلفت معه حين ضرب الولد علي الدجوي بقسوة في بطنه فنهرته؟ ولماذا لم تقل لي أخته  الطيبة التي ما خرجت معها لإحضار التوت إلا وعدت مهشماً، وقفت أمام عم الطيب دون أن أقول شيئاً، بدأ الكلام وكأنه يعرف ما يدور في رأسي.

هنرجع بورسعيد يا محمد.

زيارة كل عام في رمضان.

لا.. سنستقر في بورسعيد.

والمدرسة؟

توجد عندنا مدارس.. قالها شريف دفعة واحدة.

لأول مرة أحس أنني لا أحب هذا البلد رغم الحكايات الجميلة التي أحببتها عنه والتي جعلتني أحبها مثل شريف وربما أكثر من سارة، أخذت أبي جانباً أسأله قال:

انتهت الحرب وسوف يعودون لبلدهم.

بدأت أفكار سيئة تهاجم رأسي وأمنيات ليست جيدة تراودني، رأيت فرحا يتقافز في وجهه، قال شريف مرة إن عائلته هناك، ألسنا عائلته هنا؟، صعدت درجات السلم أحمل معهم الأشياء من الدور الثالث، لم أشعر بالتعب رغم أنني كنت أحمل أكثر منهم، صارت الحجرة خالية إلا من روحهم التي تسكنها، وقفت فيها لحظة وأنا أحمل آخر شيء، لم أكن أتخيل خلوهم منها أبدا، رغم ذلك كانت مسكونة برائحة كل شيء يحبونه، وبخاصة رائحة المخلل الرائع الذي كانت تجيد صنعه أم شريف، وكنت أصعد إليهم كي أطلبه دون خجل، كنت أتخيل أنهم لا يأكلون إلا شيئين: السمك والمخلل، بدأ سائق العربة يديرها فارتجف قلبي بشدة واضطربت بطني وبدأت مراسم الوداع والتقبيل بين كل اثنين، لم أدر ماذا أفعل؟ فقد كنت بعيداً عن شريف ومسافة باردة ما صارت بيننا، لم أقترب منه ولم يقترب مني، قال العم الطيب ووجهه يقابلني أثناء احتضان أبي:

مش هتحضن صاحبك وتبوسه؟

تعانقنا تلقائيا بحنو بالغ، أحسست بماء دافئ يسقط من عيني على يدي، كيف أتركه يذهب ويتركني وحيداً، كيف أبقى هنا دون صاحب؟ بعد لحظات ركب هو ووالده بجوار السائق وسارت أمي مع أمه وسارة حتى تركبا الأتوبيس، بدأت العربة النقل في التحرك فتحرك قلبي معها بشدة، كانت يد شريف الصغيرة تلوح لي وأنا أمشي وراءها، زادت سرعتها فزادت سرعتي تلقائياً، استدارت في شارع آخر، تابعتها، وحين هدأت العربة من سرعتها استطعت أن أجلس على الرفرف الخلفي للعربة، لم أكن أدري إلى أين؟ فرملت العربة مرة واحدة فوقعت على الأرض تحركت العربة أسرع، جريت أحاول اللحاق بها، تباعدت المسافة أكثر، أسرعت أكثر فقد كنت أسبق الجميع في مسابقات العدو، هدأت السيارة من سرعتها حين اقتربت السيارة من الأسفلت وتركت شوارعنا الضيقة، استطعت أن أتعلق بها ثانية وصوت أبواق السيارات يعلو ويعلو حولي، لم أعد أستطيع أن أحدد الأرض من تحتي، كانت العجلات تأكل الأسفلت في نهم شديد، مرقت سينما النصر دون أن أحدد صورة البطل على الأفيش، فقد كانت أبعد مكان نذهب إليه، توترت للحظة، فكرت أن أنزل، أيقنت أنني لن أستطيع، فجأة هدأت العربة ثانية، فرملت لكن بهدوء هذه المرة، خمنت لماذا توقف، يبدو أن سائقاً ما أخبر السائق أن طفلاً ما على الرفرف الخلفي، لم أستطع أن أسيطر على جسدي فوقعت للمرة الثانية، وجدت عم الطيب أمامي يمد يده كي يأخذ بيدي، نهضت بصعوبة، أخرج من جيبه منديلاً محلاويا قال في آسي شديد:

كدا يا محمد، دا أنا بقول عليك راجل.

وأحضر زجاجة ماء وبدأ يغسل رأسي فأزال عني العرق والتراب وبعض قطرات كانت عالقة بجفني، قال:

سنعود لزيارتكم قريباً.

وقال شريف بحماس:

وأنا سأرسل لك خطاباً كل أسبوع.

وأخرج عم الطيب من جيبه خمسين قرشاً تكفي لدخول سينما النصر عشر مرات ترسو وربت على كتفي ومسح شعري وأعطاها لي قائلاً:

أدخل سينما النصر وشاهد فيلم بروسلي.

نظرت لأفيش سينما النصر، كان بروسلي يطير في الهواء قلت ببراءة:

مع من؟

وتقدم هو وشريف في اتجاه كابينة القيادة بعدما قبلني بسرعة وملوحاً لي:

أوعي تتشعلق تاني، ارجع للبيت.

جلست على الطوار ألتقط أنفاسي الهاربة، تحركت العربة بسرعة كأنها تريد أن تهرب مني قبل أن أفيق، نفثت العربة سحابة سوداء من الدخان حجبت الرؤية، تمنيت أن أجري ثالثة وراءها لكن شيئاً ما يؤلمني، حاولت فلم أستطع، وقفت كي أحدد إلى أين أسير، كانت البنايات كلها متشابهات لحد كبير وسينما النصر صارت غير كافية لتحديد طريقي، فقدت تحديد المكان لحظة، وقفت كي أبصر الطريق من حولي، جلست ثانية على الأرض حتى أستعيد المكان وعرفت كيف سأعود لبيتي، أحسست بشيء دافئ على خدي لعله من الألم الذي أصاب ركبتي، مسحت شيئا ما سقط من عيني، وقعت الخمسون قرشاً مني على الأرض، تذكرتها في منتصف الطريق، لم أعد للبحث عنها، رغم عشقي للسينما ورغم أنها كانت تكفي للدخول عشر مرات، مشيت متثاقلاً، هاجمني طائر الليل بزقزقته رغم أننا كنا صباحاً.