اللواء محمود عبد الرحمن فهمي.. رجل البحر العاصف

اللواء محمود عبد الرحمن فهمي
اللواء محمود عبد الرحمن فهمي

تهل علينا خلال شهر أكتوبر الجاري، أعظم ذكرى لمصر في التاريخ الحديث، ذكرى استعادة العزة والكرامة، حيث تحتفل مصر والقوات المسلحة بالذكرى الـ 50 على نصر السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣، هذا النصر الذي قاد مصر لاستعادة أرضها وكبريائها في ضربة قاسمه للعدو الإسرائيلي الذي ذاق لأول مرة مرارة الهزيمة الموجعة على يد الجندي المصري، الذي قاتل ببسالة ودفع الثمن غاليا من دمائه الطهارة، لاسترداد جزء غالي من أرض الفيروز، أرض سيناء العزيزة تلك الأرض التي وصفت في القرآن بأنها الأرض المباركة.

فرض موقع مصر الجغرافي، وإطلالتها البحرية الممتدة لآلاف الكيلومترات على البحرين الأبيض والأحمر، أن يكون لها جيش قوي أحد ركائزه الأساسية أسطولاً بحرياً كبيراً متطوراً ومتنوعاً.

هكذا بدأ اللواء محمود عبد الرحمن فهمي، فكرته العبقرية، في بناء جيش مصر في العصر الحديث، وظل هذا التوجه يمثل ركيزة أساسية في الإستراتيجية العسكرية المصرية في مختلف مراحل تطورها، حتى أصبحت القوات البحرية المصرية اليوم من أكبر القوى البحرية في منطقة الشرق الأوسط، وهو جهد يقف وراءه جيش من رجال البحرية الشرفاء المخلصين لوطنهم والمعتزين بانتمائهم لقواتهم المسلحة، ومن بينهم  قائد القوات البحرية الأسبق وأحد قادتها ورموزها العظام "أنشودة البحر" اللواء بحري أ.ح محمود عبدالرحمن فهمي، قائد القوات البحرية أثناء حرب الاستنزاف.

بداية حياته العسكرية

ولد اللواء محمود عبد الرحمن فهمي، في 28 سبتمبر عام 1929، بحي الدقي في القاهرة، والتحق بالدفعة الأولى بحرية وقوامها -عندئذ- 50 طالباً، وتخرج في الكلية البحرية متفوقاً في ديسمبر عام 1948، حيث جاء ترتيبه الثالث على دفعته، ثم سافر إلى إنجلترا في بعثة ضمن الـ8 الأوائل من الدفعة عام 1950، ليحصل على فرقة الملازم ثانِ البحري، ثم تخصص بعد دراسة علوم وأسلحة البحرية في المدفعية، وعاد إلى مصر ليُدرّس علوم المدفعية وأجهزة إدارة النيران لكبار الضباط.

وبعد قيام ثورة 23 يوليو سافر إلى تشيكوسلوفاكيا عام 1955 ضمن الوفد العسكري للتعاقد على صفقة الأسلحة التشيكية لمصر، وفي عام 1957 سافر إلى الاتحاد السوفيتي مرة أخرى للحصول على دورة الأركان حرب البحري، وخدم منذ تخرجه حتى عام 1965 في العديد من سفن السطح البحرية بمختلف أنواعها، ثم اختير ضمن 3 ضباط آخرين من القوات البحرية للحصول على زمالة كلية الحرب العليا بأكاديمية ناصر العسكرية العليا، وبعد تخرجه من الكلية عام 1966 شغل منصب رئيس شعبة التدريب البحري، ثم منصب رئيس شعبة العمليات البحرية بعد يونيو 67.

اقرأ أيضا: قبل حرب أكتوبر.. مواقف السادات أرعبت إسرائيل

عمليات بحرية تاريخية

وشهدت الفترة التي تولى فيها ذلك المنصب العديد من العمليات البحرية المصرية التاريخية والتي تزدان بها سجلات البحرية والقوات المسلحة، ومن أبرز تلك العمليات عملية إغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات شمال شرق بورسعيد يوم 21 أكتوبر 1967 والتي أصبح يوم إغراقها عيداً سنوياً للقوات البحرية.

وتواصلت تلك العمليات بنشاط زائد وتنوع كبير مع توليه قيادة القوات البحرية في 12 سبتمبر عام 1969 وهو برتبة العميد، والتي يقول عنها: "تصورت عظم المسؤولية، وأني شايل قدر البحرية بل قدر مصر كلها بين إيديا، فكنت مُصمم من أول دقيقة أني لازم أحارب وإلا همشي.. إحنا عندنا مدمرات وغواصات ولانشات صورايخ وضفادع بشرية، فصممت إننا هنضربهم بكل سلاح من هذه الأسلحة".

وجاءت عملية قصف رمانة وبالوظة، بواسطة المدمرتين "دمياط" و"الناصر" وسرايا المدفعية الساحلية في بورسعيد ليلة 8-9 نوفمبر عام 1969، لتعلن عن مشاركة القوات البحرية بقوة في دعم جهود بقية الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة في حرب الاستنزاف، وفي 23 نوفمبر عام 1969، أصدر الرئيس جمال عبدالناصر قراراً بترقية العميد محمود فهمي استثنائياً إلى رتبة اللواء، نظير ما أنجز من أعمال بطولية، وما أبداه من شجاعة في تحمل المسؤولية خلال فترة قصيرة من توليه قيادة القوات البحرية.

اقرأ أيضا: كيف نجح السادات في خداع الجميع؟.. لغز الساعات الحاسمة قبل معركة الثأر

تحول هجومي

وبدأت عملية التحول الهجومي المتسم بالجرأة والإصرار على ضرب العدو في أرضه وإيصال الرعب إلى قلبه، وكانت البداية التي افتتحت تلك المرحلة هي عملية الإغارة على ميناء إيلات الإسرائيلي بواسطة الضفادع البشرية والتي تعد تصعيداً جريئاً في التخطيط والتنفيذ للعمليات البحرية المصرية، ثم جاءت دُرة العمليات الخاصة البحرية بتدمير سفينتي الإنزال البحري الإسرائيليتين "بيت يم" و"بيت شيفع"، وفي صباح اليوم التالي للعملية والإعلان عنها، أرسل اللواء محمود فهمي إلى تشكيلات ووحدات القوات البحرية رسالة قال فيها: "من قائد القوات البحرية إلى جميع الوحدات: لقد أغارت الطلائع الباسلة من ضفادعنا البشرية على ميناء إيلات الإسرائيلي ليلة أمس، ودمرت سفينتين للعدو.. وإذ أهنئكم جميعاً؛ أتطلع إلى نصر جديد تحققونه ضد عدونا الغاشم.. إن مصر تنتظر من كل منا أن يؤدي واجبه".

وبعدها جاءت عملية الحفار "كينتنج" الذي تعاقدت عليه إسرائيل مع شركة كندية لاستخراج البترول من خليج السويس، ودمرته الضفادع البشرية في ميناء أبيدجان بساحل العاج يوم 8 مارس 1970، في عملية جريئة ومُحكمة، قال عنها اللواء محمود فهمي: "استدعاني وزير الحربية القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول محمد فوزي، وقال لي فيه مهمة بيكلفك بيها الرئيس جمال عبدالناصر شخصياً، والنتيجة كانت مشرفة وانفجرت الألغام الأربعة فكانت العملية ناجحة 100%".

ولم تتوقف عمليات القوات البحرية بعد وقف إطلاق النار نتيجة لمبادرة "روجرز" في أغسطس عام 1970، بل استمرت بأعمال الاستطلاع وجمع المعلومات عن موانئ العدو وسواحله بواسطة الغواصات، وعن ذلك يقول اللواء محمود فهمي: "كنت ببعت الغواصات تقعد 20 يوم في المياه الإسرائيلية قدام حيفا وتل أبيب وأشدود، ويصوروا الميناء ويجمعوا المعلومات".

اقرأ أيضا: نصر أكتوبر | السادات يستعد لـ«ساعة الصفر»

صفحة من التاريخ

وفي عهد قيادة اللواء محمود عبد الرحمن فهمي، شهدت القوات البحرية طفرة كبيرة في عمليات التطوير والتحديث في شتى المجالات، كما تم تدشين أول وحدة بحرية تصنع بأيادٍ مصرية، وكان هذا التطور الكبير هو ركيزة عمل القوات البحرية في حرب أكتوبر المجيدة عام 1973، والتي شغل بعدها منصب مستشار رئيس الجمهورية للنقل البحري بدرجة وزير في عام 1974، ثم اختير وزيراً للنقل البحري في 16 أبريل عام 1975.

وفي كتاب أسماه "صفحة من التاريخ"، كتب اللواء أركان حرب بحري محمود عبدالرحمن فهمي مذكراته، وتصدر خطاب الرئيس السادات مقدمة الكتاب؛ ليكون دليلاً على ثراء محتواه وصدق أحداثه التي هي جزء من المسيرة النضالية للقوات المسلحة المصرية.

اقرأ أيضا: نصر أكتوبر | أسطورة إبراهيم الرفاعي .. مسيرة بطل «فيديو»

الفريق أول عبد الفتاح السيسي يكرم حرم اللواء محمود فهمي

 

سيرة عطرة

وكان لحسن قيادة اللواء محمود عبد الرحمن فهمي، وعمق تواصله مع قواته كبيرهم وصغيرهم، أكبر الأثر في إذكاء الروح المعنوية وروح القتال، وعن ذلك يقول الرائد بحري نبيل عبدالوهاب، أحد أبطال الإغارة على ميناء إيلات: "كلماته البسيطة كانت تدفعنا دفعاً لعمل أي حاجة، فعلاً كان يعتني بكل حد فينا بحيث يبث فينا روح مش قادر أوصفها".

وفي يوم 28 أبريل عام 2006، رحل "رجل البحر العاصف" إلى عالم الهدوء والسكينة، وتخليداً لمسيرته وعطاءه أُطلق اسمه على الدفعة 65 بحرية، كما أصدر الرئيس عبدالفتاح السيسي قراراً جمهورياً بمنح اسمه رتبة الفريق فخري، اعتباراً من 2 يناير 2014، كما أُطلق اسمه على أحد لانشات الصواريخ المنضمة حديثة لأسطول القوات البحرية.