«رشفات» قصة قصيرة للكاتبة نجوى عبد الجواد

نجوى عبد الجواد
نجوى عبد الجواد

يسحب بوهن وفتور، ويبدو أنه لا يحبني. اخترقت البوابة وسرت ببطء شديد فوق أرض رويت بعصارة الصبار؛ فأخذت منها بدلا من أن تأخذ مني. وانفلت أخيرا بعد معاناة إلى مكان أكثر اتساعا حيث معدته شبه الخاوية.

شعرتُ بما كان من معاناة الرشفة وبما يمكن أن ينال الباقين فتمايلت يمنة ويسرة في محاولة للتمرد والإفلات منه حتى كدت أسقط من بين يديه قبل أن يحكم الإمساك بي.

أنظر إليه بغضب: لماذا فتحتني إذا لم ترد شربي! يبدو أنه كان يريد مجاملة ضيوفه. التقت عينانا فخف غضبي حين لم أر في عينيه سوي الحزن، والحزن فقط.

أراحني من ضغطة يده ووضعني بجواره وأحاط الصبي الذي ينتحب بجواره بكلتا يديه وضمه إلى صدره وتحدي دموعا تبغي الهطول وانتصر عليها.

لم يرد على حوارها الشاكي الباكي ورفع وجهه إليه وبابتسامة ارتوت بحنان الكون قال: اشتقت إليك يا صغيري.

وسط زخات الدموع التي تهطل على الوردة التي يمسك بها يرد الصبي بابتسامة كاذبة.

أول مرة يبكي منذ أن أخذوك، فكرت أن أعرضه على طبيب لكن يبدو أن الشفاء جاء حينما رآك. كان هذا تعليقها.

استمر في ضمه بقوة وآلي إلا أن يهزم صوته حزنه فخرج يدّعي القوة ويظهر التماسك: ابني رجل لا يُكسر ولا يبكي مثل الأطفال.

واضح هههههه.

هكذا حاولت أن تُضحِك ابنها.

لا أريد هذه الدموع ثانية، لقد تركت خلفي رجلا.

لا يرد، دفقات الدموع التي حبست طويلا هي التي ترد ولسان حاله ينطق: لقد شخت يا أبي.

لغة الصمت سادت بينهم إلى أن أمسك بي وأخذ رشفة تبلل ريقه وكان حظها قريبا من حظ سابقتها. أخبار الأهل والجيران؟ هكذا سألها.

كان حولنا كثيرون كما تعرف ولم يبق إلا أقل القليل!

سارعت رشفات مني تنقذه من مرارة هذا الكلام، وعقّب بعدها: بارك الله في هذا القليل، ربما منعتهم أعذار لا ندريها.

في تهكم ترد: ربما، ربما.

يعود الصمت بينهم من جديد وأشعر بحرارة يده وقد انتقلت إلىّ كلية ولا حيلة لي إلا نظرات تشكو حالي لأخواتي القابعات بين أيديهن..

عادت من جديد: لكن هذه الأعذار لا تقنعنا عندما يحل الظلام ونجد جدران البيت هي من يضمنا دون البشر، ونرفضها بكل قوة عندما تشرق الشمس على غيرنا ووحدنا تمر علينا مرورا لا لشيء إلا لأننا مازلنا محسوبين على الأحياء!

شعرتُ بامتنان لنفسي إذ بعد الحرارة التي سرت في جسدي ووصلت إلى داخلي مازلت قادرة على تلطيف الداخل المشتعل. وعاد ليقول: لا نحتاج لأحد، كُفِّي عن العشم في البشر، نحمد الله مازلنا بخير.

حركت رأسها بالنفي: لسنا بخير، نعم لسنا بخير. نحن لا نحتاج مالا، نحن نحتاج للمسة حانية، وكلمة تواسينا، وزيارة تؤنسنا، وأحبة يقولون لنا نحن هنا معكم وحولكم، لستم وحدكم في هذه الدنيا.

نظر إلى الصبي ثم إليها وهمَّ بالحديث. صوت أجش يوقفه: الزيارة انتهت!

انترعت السيدة الصبي برفق، أطاعها بعد أن تبادل ووالده العناق، واستجاب لليد التي تسحبه ووجهه مثبت إلى الخلف حتى تواري عن الأنظار.

ودعت صديقاتي الراحلات مع الضيوف وظللت في يده، أظنه سيتركني، لقد أديت مهمتي وأحتاج لتخفيف الضغط عني، القاعة تفرغ تباعا، أكياس الطعام أمامه، يهم بإلقائي ثم يعود ويضعني على المقعد ويجثو على ركبتيه ويمد يده أسفل المقعد الذي جلس عليه ابنه ويمسك بالوردة التي نسي تقديمها له وسقطت منه وهو جالس، يمسك بها في حنو ويمسح عنها التراب بيديه ويمنحها قبلة يظنها على وجه ولده ثم يمسك بي ويضع ساق الوردة بداخلي! ويحملني معه وبداخلي الوردة العطشى حيث بدأت ترتوي من قطراتي بينما ترتوي عيناه منها هي.