«قلوب منسية» قصة قصيرة للكاتبة أميرة عبد العظيم

أميرة عبد العظيم
أميرة عبد العظيم

ماً.

  خاصمني الفرح.. لم تعد شفتاي تشعر بطعم الضحكة الصافية وسط ضجيج الألم والحزن منذ أن غادرتني حبيبة عمري ورفيقة دربي التي كانت تطوق حياتي جمالاً ونوراً.

  رحلت عنى زوجتي وأنا في السبعين من عمري وتركتني وحيداً بعدها ملأت التجاعيد كل دنياي، لا ليست بتجاعيد وجه وإنما هي تجاعيد وجع السنين الأخيرة التي مرت عليّ مرور السنين العجاف منذ أن مرضت زوجتي وعانت آلام ذلك المرض اللعين الذي لا يرحم، كنت أرعاها رغم أنى رجل هَرِم، فنحن لم نرزق بالذرية.

 

قضيت عمري كله أتسابق مع الزمن حتى اشتعل الرأس شيبا، ووهن العظم من مر الوحدة وقسوتها، لا أشكى قلة المال، الحمد لله رب العالمين عوضني عن ذلك كله بأن يكون لدىَّ من المال ما يكفيني ويفيض عليَّ لأعيش حياة كريمة ولا اضطر لسؤال أحد، حُرمنا الذرية ولكن سبحانه وتعالى أفضى علىّ بالمال ولدى شقه تمليك فاخره تطل على البحر مباشرة أستمتع بجماله وهواه العليل وصوت الأمواج وهي تسابق الزمن الجميل وأتذكر رفيقة عمري وهي تجلس جواري.. ونتبادل الذكريات سوياً

 

مع إشراقة كل صباح أنزل للتريض على الكورنيش، حتى أن عمال النظافة في الشارع تعودوا على رؤيتي كما تعودت أنا عليهم والاستمتاع بالحديث الشيق معهم....

أذكر منهم تحديداً عم إبراهيم ذلك الرجل الستيني والذي يمسك في يده المقشة ويكنس بجوار الرصيف لينظف الطريق، ويصلح ما أفسده الناس طول الليل، ويقوم بوظيفته على أكمل وجه، حديثي معه كان ممتعا جداً، نحكي عن الزمن الجميل والكورنيش وأخلاق الناس، والهدوء الذي كان يتمتع به الشارع ويزيد من جماله.

 

تمر الأيام وأنا كل يوم على نفس الحال إلا أن اليوم كان مختلفا فلم أر عم إبراهيم.. ساورني القلق فسألت أحد زملائه: عم إبراهيم فين النها ردة

رد زميله قائلا: تعب شويه وروحناه البيت

زاد قلقي على الرجل وفى الحال قررت أن أذهب إليه بصحبة زميله

 

 ركبت سيارتي وتوجهنا إلى منزل عم إبراهيم. حاره جوه حاره وشوارع تضج بالبشر

وها هو البيت غرفة وكأنها تغرق تحت الأرض شُبه لي بأنها مدفن أُعد للأحياء هكذا كان يعيش الرجل وزوجته....

 عندما رآني عم إبراهيم انتابه الذهول، ولمعت عيناه من هول المفاجأة

قولت له: مالك يا راجل يا طيب، انت عَجِزت ولا آيه

رد بصوت يرتعش أنهكه المرض وقسوة الحياة وابتسامة تخفى من ورائها عين تبكي بلا دموع، وجسد هزيل: يا دوب المهية علينا أنا ومراتي بناكل وجبة واحدة في اليوم، يا بيه إحنا في زمن عامل زي الرحاية بس رحاية بتطحن العظم.

 

سألته: وفين الأولاد ويا ليتني ما سألته هذا السؤال فقد تحول إلى رصاصة في قلب الرجل.

 

وبدموع الحرقة وصوت يملؤوه الألم قال: الولد الكبير علمته وأخد بكالوريوس التجارة وسافر يشتغل محاسب، والثاني مدرس هنا مبسوط وبيدي دروس، والبنت خلصت الآداب وتجوزت الحمد لله

سبحان الله العظيم وعلامات التعجب الشديد تملأ تجاعيد وجهي!!!!! لدرجة إن الرجل لاحظ ورد قائلاً ووفر علىّ السؤال: كل واحد في حاله يا بيه بيستعروا مني أنا والدته ومبيعرفوناش خالص ولا حتى إحنا نعرف لهم عنوان ولا تليفون، مفيش غير البنت هي اللي ممكن تزورنا كل عيد....

ربَّت بيدٍ على كتفيه كالأب الحنون جعلته يشعر ببعض الهدوء والسكينة، وبحرص وحذر وضعت يدي الأخرى في جيبه لأخصه بجزء مما أنعم الله به علىّ من المال، علها تضمد جراحه وتخفف البعض من أحماله التي من ثقلها آلمت صدره الضعيف.

استعفف الرجل ورفض، إلا أنني قبضت على يده بقوة ونظرت في عينه التي زرفت الدمع من شدة الحرج..

وهمست في أذنه لا تحزن يا أخي، الله خلقنا إخوة يعوض بعضنا البعض ويرزقنا من حيث يشاء.

وكان عهد قطعته على نفسي أمام الله أن أساعد هذا الرجل وزوجته ما استطعت ما دمت حياً، وبرثاء جاشت به نفسي، يا الله أعطيتني المال وحرمتني الولد، ومنحت هذا الرجل الولد وحرمته المال وعطف الولد.