«الآن.. سأكمل لأمي بطولات أبي» قصة قصيرة للكاتب عبدالنبي النديم

«الآن.. سأكمل لأمى بطولات أبي» قصة قصيرة للكاتب عبدالنبي النديم
«الآن.. سأكمل لأمى بطولات أبي» قصة قصيرة للكاتب عبدالنبي النديم

وقف شارداً.. ينظر إلى الماضى القريب.. يترك بصره يتجول فى الأرض الفضاء المترامية أمامه لا يحدها بصر.. يملّى عينيه المشتاقة إلى سيناء.. تلك البقعة الغالية من أرض الوطن..  أصوات الحفارات والمعدات الثقيلة من حوله تدب فيها الروح..  تشق الأرض شقاً.. ترسم مستقبلاً جديداً لمصر.. بشريان حياة يروى الخير فيها.. يوازى الشريان القديم لقناة السويس .. معجزة جديدة تقدمها مصر إلى البشرية .. من شعب جبار اعتاد صناعة المعجزات..

يهبط بركبتيه على الأرض .. يغرز يديه فى قلب رمال سيناء الدافئة .. يبحث بداخلها عن شىء فقده منذ عشرات السنين .. يخرج كفيه قابضة على حفنة من الرمال .. يقبٌلها .. يملأ صدره برائحة مسكها..

تنساب دموعه .. تتساقط على الرمال بين كفيه .. تبللها.. يرخى أنامله.. ينظر إلى الرمال التى تنساب من بين أصابعه .. ما تلبس أن تعود إلى مستقرها ثانية .. لا تذروها الرياح.

يتمتم.. يهز رأسه يميناً ويساراً ، يخاطب خيالاً أمامه أين أنت؟

هل تختلط دمائك بحبات الرمال هذه؟

لماذا أخفيت نفسك عني، وقد تركتك وديعة في باطن أرضها التي فاضت روحك من أجلها..

كنت على العهد ونحن من بعدك أيضا .. لم ولن يستطع أحد أن ينتزع سيناء التي تعيش بداخلنا ، فالجسد لا حياة له بدون الروح.

يعود وينظر إلى كفيه..

يتذكر ..

تتحول الرمال المتساقطة من بين أصابعه إلى دماء..

دماء النزيف الحاد الذى أصيب به رفيق دربه نتيجة طلقة أصابت صدره.. أصرعلى حمله وعدم تركه للعدو.. دماء صديقه الذى استشهد على كتفه، تخضب ملابسه باللون الأحمر.. بعد أن قاما بتنفيذ العملية التى أوكلت إليهما من قبل قيادتهما العسكرية, خلف خطوط العدو, بعد أن عبر الجيش المصرى قناة السويس وحطم خط بارليف - أسطورة العدو المزيفة - التى سقطت تحت أقدام جنود القوات المسلحة فى حرب الكرامة.. حرب أكتوبر 73.. وحوش كاسرة تزأر لاستعادة الكرامة.. تحطم كل النظريات العسكرية.. تسطر تاريخاً جديداً.. تتهافت على التعلم منها أعتى مدارس العسكرية فى العالم ..

صوت طائرات العدو يصل إلى مسامعه, يختبئ خلف تلة عالية حتى لا ترصده .. يأخذ صديقه عطوة أحمد البسطويسى بين ذراعيه .. يضمه إلى صدره .. يحدثه، يطلب منه أن ينظر إلى معسكر العدو الذى تحول إلى قطعة من جهنم تتفحم فيها جنوده ومعداته .. تنهمر دموعه.. تغرق صديقه الشهيد عطوة, رفيق كفاحه وزميل دفعته عندما التحقا سويا بالقوات المسلحة فى نفس اليوم كضابطي احتياط منذ ثلاث سنوات, وكانا ينتظران يوم العبور ورد الكرامة لكل المصريين, وبالرغم من اختلاف طبقاتهما الاجتماعية, إلا أن عطوة ابن الريف, دائما ما كان يمتلك مقومات القائد, ويتمتع بالشجاعة والجسارة, والرأى السديد.. كان مرجعًا لكل زملائه بالكتيبة, كان يدون كل صغيرة وكبيرة وكل ما حدث منذ التحاقه بالجيش, وكان أسلوبه ينبئ بروائي يمتلك أسلوبًا رائعًا فى السرد لكل الأحداث التى تقع فى الكتيبة, ووصف كل فرد فيها من قائد الكتيبة إلى أحدث عسكري.. كانت كتاباته مثار حديث الكتيبة.. أطلقوا عليه توفيق الحكيم..

ينظر إلى وجه رفيقه.. يمسح الدماء التى غطت ملامح وجهه .. يستكمل حديثه معه لآخر مرة .. وهو يجهش بالبكاء, لقد فعلت الكثير يا صديقي أنظر ماذا فعلت لوطنك.. لن ينسى أحد كل بطولاتك .. وستسجلها مصر عرفانا بتضحياتك, وستزف إلى الجنة بشهادتك..

تحوم طائرتان من العدو حول التلة التى اختبأ خلفها, أيقن أن الهروب بصديقه مجازفة كبيرة.. الإصرار لديه كبير فى الرجوع برفيقه.. الذى أوصاه وهو ينطق بالشهادة بزوجته وابنه الذى ولد ولم يره بعد..

سيطرعلى تفكيره كيف ينجو بصديقه من أيدي الأعداء..

حتى لاح فى ذهنه إخفاء جثمان رفيقه عن أعين العدو.. فقام بإسناد جثمان عطوة إلى التلة.. وأخرج جروفاً من مخلته.. اختار منطقة رملية جافة.. أخذ فى الحفر إلى عمق كبير قبل أن يحل عليه الفجر.. حمل رفيقه إلى الحفرة وقام بدفنه وهو يحتضن سلاحه..

أتم ردم الحفرة .. قام بوضع صخرة كبيرة كشاهد عليها حتى يستطيع العودة بعد الحرب ونقل جثمان صديقه إلى قريته, وهم بوداع صديقه .. وبعد أن قطع بضع خطوات .. عاد مسرعاً إلى حيث مستقر رفيقه .. وقام بإزالة الشاهد الذى وضعه على قبره .. حتى لا يكون علامة فيقوم العدو بالحفر وإخراجه..

 

 *

وقف المهندس أمين مجدى حنا معتدلاً على قدميه, تاركا حديث الذكريات .. يتابع حماس سائقى ومهندسى شركته الذى انتقل إلى المعدات بكل همة لحفر قناة السويس فى الميعاد الذى حدده الرئيس عبد الفتاح السيسي .. كل فرد فى كتيبة العمل بشركته يعرف مهامه التى أوكلت إليه .. الكل يحاول أن يكتب لنفسه تاريخاً جديداً مع هذا المشروع العملاق .. ويتابع المهندس الشاب أمين عطوة مدير المشروع .. الذي يتنقل بين العاملين بالموقع .. شعلة متنقلة من الحماس والهمة .. أصر أن يكون عمله بمشروع قناة السويس الجديدة بلا مقابل .. أحبه كل من عمل معه .. يمتلئ قلبه بالوطنية .. يستمد منه العاملون بالموقع حماسًا فوق حماسهم .. لم يعترض أحد من أعضاء مجلس إدارة الشركة ليتولى إدارة المشروع رغم صغر سنه.

فجأة.. يصرخ المهندس أمين مجدي حنا بأعلى صوته .. يأمر سائقي اللوادر والمعدات بإيقاف العمل .. تصل صرخته إلى كل العاملين بالموقع.

صمت رهيب يسود المكان .. الكل وقف وكأن على رؤوسهم الطير.. وأعينهم تحجرت على جرف القناة الجديدة .. يسرع المهندس أمين إلى قلب القناة .. يسقط، يتدحرج جسده من على الجسر .. يزحف على بطنه ليصل إلى ما يبحث عنه منذ زمن بباطن الأرض .. يقف أمام المشهد الذى ظهر بين الرمال مشدوها .. تنهمر دموعه وهو يتحسس الجسد الذى تركه وديعة منذ عشرات السنين .. هو بعينه.. كما تركته.. الدماء ما زالت تزين زيه العسكري .. يحتضن سلاحه بين ذراعيه .. يمد يده إلى رفيق كفاحه .. وقبل أن تصل يده إليه .. سقط فى بئر سحيقة فاقدا وعيه.. يلتقطه العمال وسائقو المعدات بالموقع.

 يحاولون إفاقته .. يتذكر .. يغوص فى بئر الذكريات..

 

 *

 سيطرت القوات المسلحة على كل أراضى شرق القناة .. تقدم الملازم أمين مجدي حنا بطلب إلى قيادته لنقل جثمان رفيقه عطوة البسطويسي إلى مقابر عائلته بقريته. الأمر الذى امتثل له قياداته على الفور .. تأهبت قوة من الكتيبة للبحث عن رفيقه.. بكافة وسائل الحفر الممكنة لديهم .. ساعات طويلة حاول الملازم أمين والقوة المرافقة له البحث عن الجثمان .. دون أي نتيجة .. طلب الضابط المسئول عن المأمورية إنهاء البحث .. وقيد الملازم أول عطوة احمد البسطويسى .. جندى مفقود عمليات حربية ..

أصيب أمين بحالة هستيرية.. يصرخ فى أفراد المأمورية .. يطلب منهم مواصلة البحث عن رفيقه .. مؤكداً لهم أنه موجود بهذه المنطقة .. قام بدفنه بيديه حتى لا يقع جسده أسيرا فى يد العدو .. وعدت صديقي أن أوصله إلى قريته .. أرجوكم.. صديقي هنا.. علمني كيف تكون البطولة والتضحية .. صديقي الذى فجر فى حنجرتي «الله أكبر» عندما كنت أشاهده أمامى يضرب أروع الأمثلة فى الفداء والشجاعة والإقدام..

يقف فى وجه قياداته ليكون أحد أفراد القوة المكلفين بعمليات خاصة خلف خطوط العدو ولم يترك واحدة منها .. رفيقى عطوة فخر لكل مصرى..

تنهمر دموع أفراد المأمورية .. ينهار أمين مجدي حنا عندما وجد عدم الاستجابة لاستكمال البحث .. ألقى بجسده على الرمال.. يعاركها .. ينبش الأرض بكفيه.. ينادى أرض سيناء .. اخرجي رفيقى.. لقد ضحى بحياته من أجلك.. تخور قواه.. وهو يردد: لقد أضعتك يا صديقي.. لقد فقدتك للأبد .. ويهوى فى البئر السحيقة .. يحمله أفراد القوة على أكتافهم بدلا من رفيقه.

 

*

 

يفوق المهندس أمين مجدي حنا على نثر قطرات الماء على وجهه من رفاقه فى مشروع حفر قناة السويس الجديدة .. يتذكر سريعًا.. أين عطوة ؟ أين رفيقى ؟

يهب واقفًا .. يعود إلى جرف القناة, حيث يستكين بكامل هيئته وهيبته التى تركه عليها, لم تنل الأرض من جسده .. يساعده من حوله فى إخراج جثمان الشهيد.. يحملونه .. يضعونه برفق على أرض سيناء خارج القناة الجديدة .. يحيطون به من كل جانب .. والمهندس أمين يتكئ على ركبتيه أمام رفيقه يتأمله .. يأخذه بداخل أحضانه يبث في جثمانه شوق السنوات التي مرت بدونه، دموعه تنهمر على جسد زميل سلاحه عطوة البسطويسى..

يشق جموع المحيطين المهندس أمين عطوة المسئول عن المشروع من قبل مجلس إدارة الشركة لكفاءته .. يقف أمام جسد الشهيد مذهولا .. ينزل على ركبتيه بجوار المهندس أمين حنا رئيس الشركة .. يمد يده إلى الشهيد .. يخرج من تحت زيه العسكرى حافظة جلدية ظهرت من بين طيات ملابسه .. يفكها من السلسلة المعلقة برقبته .. يفض الحافظة الجلدية .. يخرج منها كشكولاً .. تسقط منه صورتان على صدر الشهيد .. يتلقى صدمة لم تكن فى حسبانه يوما .. تدور به الدنيا .. بأيد مرتعشة يلتقط الصورتين .. يلتقط أنفاسه بأعجوبة .. ينظر إلى رئيس الشركة الخارج لتوه من بئر الذكريات.

يسأله: أنت تعرف الشهيد.. تعرف اللى فى الصورة دول ؟

يجهش أمين حنا بالبكاء .. يمد يده المرتعشة ممسكاً بالصور..

أيوه أعرفه .. أيوه أعرفه .. دا عمرى اللى دفنته فى رمال سيناء..

أيوة أعرفه .. دى الوديعة اللى سبتها فى سيناء فى حرب أكتوبر .. دى صورتنا فى الكتيبة بعد ما رجعنا من عملية شرق القناة أيام حرب الاستنزاف وعطوة كان راجع ومعاه أسير إسرائيلى مكتفه بالحبال ليعبر بيه القناة .. ودى صورته هو ومراته.. كانا ينتظران طفلاً وقت الحرب..

أيوه أعرفه .. بعد ما عبرنا قناة السويس ورجعنا سيناء النهاردة ربنا أراد ألاقى رفيق كفاحى واحنا بنعبر بمصر للمستقبل بمشروع جبار ومعجزة زى ما كان العبور معجزة .. الشهيد عطوة البسطويسى حي بين إيديا .. هو الشهيد مقاتل عطوة أحمد البسطويسي .. رمز للتضحية من أجل تراب الوطن ..

يصاب المهندس أمين عطوة بالذهول .. يفتح كشكول الشهيد بسرعة .. يقع بصره على الخط الذى تعود أن يقرأه منذ أن وعت عيناه على الدنيا وتعلم منها حروف القراءة والكتابة .. إنه خط والده الذى استشهد فى حرب أكتوبر.

ما زالت أمي حتى الآن تحكى لى بطولات أبي، التى دونها بكشكول بطولاته هو ورفاقه .. لم تمل من سردها .. ولم أمل من الاستماع إليها..

الآن.. سأحكى لأمي بقية قصة بطولات أبى..

لم يتيح لى القدر أن أراه فقد ولدت قبل حرب أكتوبر بيوم واحد .. لكن عشت معه على صفحات بطولاته التى دونها فى كشكولين خلال فترة الاستعداد للحرب .. وهذا الكشكول الثالث يكمل قصة أبى .. يتمتم المهندس أمين عطوة بكلمات لم يفهمها من يحيطون به .. ينظر فجأة إلى المهندس أمين حنا وقد اختلطت أحاسيسه التى ارتسمت على وجهه..

آنت رفيق والدى فى الحرب ؟

آنت من أسمانى باسمك !!!

كانت وصية والدي لوالدتي أن يكون إسمى على إسمك ..

ينظر أمين حنا إلى ابن رفيقه وقد توقف عقله عن التفكير تمامًا .. وعقد لسانه عن الحديث..

الذهول وهول المفاجأة أصابهما وكل العاملين بالموقع .. ولم يدر أمين حنا بنفسه وهو يلقى بجسده فى أحضان ابن رفيقه .. يشتم منه رائحته .. مرددا: دورت عليه كتير جدا.. كنت خايف عليه.. مقدرتش أنفذ وصيته وأرجعه لبلده .. سامحنى أنى معرفتش إنك شغال معانا فى الشركة كمان ..أنا وافقت على مهندس شاطر ومؤهلاته هى اللى كانت طريق تعيينه وهيبقى مكسب للشركة، ومقدرتش أزوركم لإحساسي أني ضيعت الأمانة ووصية والدك.

 وقف الجميع إجلالاً للشهيد .. ووقف المهندس أمين حنا وبأعلى صوته .. النهاردة بس أقدر أدفن رفيق كفاحي .. النهاردة بس مش هنعبر قناة سويس واحدة علشان أدفن الشهيد عطوة البسطويسى..

النهاردة هنعبر قناتين بفضل الشهيد عطوة البسطويسى وكل شهيد ضحى بدمه علشان بلده..

النهاردة تاريخ جديد بينكتب لبلدنا .. وللشهيد عطوة البسطويسى..