من دفتر الأحوال

حلاوة العبث حتى الموت

جمال فهمى
جمال فهمى

الفرنسيون يتذكرون هذه الأيام، واحد من أكبر أدباء أدبائهم فى القرن العشرين وأكثرهم شيوعًا بين جمهور قُراء الفرنسية ولغات أخرى كثيرة، إنه الأديب والمفكر الكبير ألبير كامو (1913 ـ 1960) الذى حصل على جائزة نوبل فى الأدب (عام 1957)، وهو لم يكمل بعد الـ 44 من عمره القصير، ثم بعدها بأقل من ثلاث سنوات يموت فى حادث مؤلم من فرط عبثيته يكاد يختصر أفكار ضحيته.


أما السبب المباشر للتذكر وحضور سيرة «كامو» هذه الأيام (هو حاضر بأعماله دائمًا)، فهو اكتمال مائة وعشر سنوات على ميلاده هذا العام بعد أسابيع قليلة الذكرى (يوم7 نوفمبر)، وقد تحولت ذكرى ميلاده العاشرة فوق المائة، مناسبة للتأمل والتمعن فى أفكاره ونظرياته عن اللامبالاة وعبثية الحياة الإنسانية وقسوتها التى تبعث على التمرد الذى يبدو فى الكثير من النصوص المُوقّعة باسمه، تمردًا بغير حدود، بل ويلامس أحيانًا حدود الجنون.
بدأ «كامو» مسيرته الإبداعية برواية «الغريب» (1942) التى تُعد الآن واحدة من أكثر الأعمال الأدبية الفرنسية ذيوعًا فى العالم، وفى هذه الرواية التى لا يتجاوز حجمها 154 صفحة، تبدو فلسفة ألبير كامو صارخة وواضحة وضوح الشمس، إذ تتجسد فى بطلها «الحالة النموذجية» للمتمرد لدرجة الجنون، إذ تبدأ الحكاية التى يرويها «ميرسول» بطلها نفسه بتلقيه رسالة قصيرة تأتيه من دار المسنين التى تعيش فيها أمه منذ ثلاث سنوات، تتضمن خبر موت الأم.


فورًا نفهم أن السيد ميرسول لا يشعر بأى حزن أو أسى لخبر وفاة أمه، لكنه يقرر الذهاب إلى جنازتها، وفى الجنازة يدهش حضورها القليل أن الأبن لا يظهر أية عواطف، كل ما يفعله هو التأمل فى وجوههم مُصوبًا إليهم نظرات لا تشى بشئ، بينما هو واقف طول الوقت صامتًا بجوار التابوت المسجى فيه جسد أمه يدخن ويشرب الشاي.
فى اليوم التالى للجنازة يلتقى بامرأة تدعى ماري، كانت زميلته فى الشركة التى يعمل بها، يتبادلان الحديث قليلًا ثم يذهبان للهو معًا على شاطئ البحر، ثم يشاهدان فيلمًا كوميديًا فى السينما قبل أن يذهبا لشقته حيث يتطارحان الغرام، وفى لحظة تسأله مارى إن كان يحبها فيجاوبها: بأن هذا الذى تسأل عنه لا يعنى له شيئًا على الإطلاق!
تمضى حكاية ميرسول على هذا المنوال من العدمية واللامبالاة بأى شئ بما فى ذلك الأخلاق، فنجده يلتقى بصديقه ريموند الذى يطلب منه مساعدته فى الانتقام من عشيقته التى هجرته إلى شخص آخر.. يوافق ميرسول على أن يؤدى هذه الخدمة، وبالفعل يكتب لعشيقة صديقه السابقة خطابًا يستدرجها فيه إلى حيث يتمكن ريموند من قتلها.


يعرف شقيق القتيلة بما حدث فيقرر هو وأصدقاؤها الثأر من القاتل، وبالفعل ينجح الشقيق فى تتبع ريموند حتى يقتله، لكن ميرسول يحصل على سلاح هذا الأخير ويطلق عليه عدة رصاصات قاتلة، فيقبض عليه ويُحاكم ويُدان، وفى السجن لا تبدو على هذا «الغريب» أية مشاعر ندم أنه على وشك الإعدام بسبب ارتكابه جريمة قتل شخص لا يعرفه ولا ارتكب بحقه أى شئ.


تمر عليه أيام السجن الكئيبة وهو على هذه الحال من اللامبالاة، وفى يوم يأتى إلى زنزانته قسيس يطلب منه التوبة والعودة للإيمان فيستشيط غضبًا ويعلن الرفض بصخب شديد، ثم فى إحدى الليالى الطويلة قبيل تنفيذ حكم إعدامه، ينظر إلى السماء من طاقة زنزانته ويقول ملخصًا حاله وفكرة «كامو» معًا: «فى هذا المساء الذى يفيض بالنجوم أشعر برقة وعذوبة اللامبالاة التى عشتها ومازلت أتمتع بها حتى الآن»ّ!!