أخر الأخبار

حلاوة زمان بريشة فنان| المولد النبوي في أعمال التشكيليين المصريين

صورة موضوعية
صورة موضوعية

■ كتب: رشيد غمري

المولد النبوي مناسبة دينية، اكتسبت فى مصر روحا خاصة لارتباطها طوال قرون بعدد من الطقوس الاحتفالية من زفة الطبول والرايات فى الريف، والأحياء الشعبية، وزينات الشوارع، وسرادقات المدائح، وحلقات الذكر، وحتى عروسة وحصان المولد والحلوى المخصصة للاحتفال. وكلها عناصر تراث شعبي ثرى ومتراكم، ترك بصمة فرح طفولى على الوجدان الجمعى، وصار مصدر إلهام لأجيال من الفنانين التشكيليين طوال ما يزيد عن قرن، فاحتفوا به من جيل الرواد وإلى الآن.

◄ عروسة المولد ألهمت الفنانين بتراث إيزيس وست الحسن

◄ عروسة «السجيني» جسدت مصر ..وعرائس «عمار» حب بلا حدود

ينسب للحقبة الفاطمية بداية مجموعة من الطقوس الاحتفالية التى صارت ضمن التراث المصرى، غير أن أبحاثا تاريخية وتراثية تشير إلى أن بعضها ترجع جذوره إلى التاريخ المصرى القديم، حيث استطاع الوجدان الجمعي الاحتفاظ بها، وأعاد إنتاجها وتطويعها عدة مرات، تلبية لمزاج عام محب للاحتفال والاستمتاع بمباهج الحياة خصوصا فى المناسبات الدينية. ونظرا لأهمية المولد النبوى الشريف كمناسبة دينية ذات طبيعة روحية، فقد تعددت مظاهر الاحتفال الشعبى به، وبطرق تحمل العديد من الرموز الحضارية المتوارثة، ما جعلها مادة ثرية لأجيال من التشكيليين، على اختلاف مدارسهم الفنية.     

◄ الفن الشعبي
«عروسة المولد» دمية من السكر الأبيض ترتدى ثوبا من أوراق مزخرفة بألوان زاهية، وتزاويق مذهبة ومفضضة، مثلت البهجة للفتيات الصغيرات، كهدية من الأب والأقارب. وهى عنوان لفرح بالجمال فى أيام المولد، قبل أن تتحول إلى شقف من الحلوى اللذيذة تذوب فى أفواه متعطشة للحياة. وقد صنعت على هيئة فتاة تشبه أميرة متوجة من زمن الحواديت، كأنها ست الحسن، أو قطر الندى، رمز الجمال البريء، والأنوثة المكللة بهالة بهية من الزخارف. وتذكرنا تيجانها حتما بأجنحة إيزيس المشرعة، خيرا ونماء وحبا غير مشروط، وتحيلنا أيضا إلى هالة العذراء الأم المقدسة عند المسلمين والمسيحيين. وهى كقطعــة من فن النحت الشعبي، استطاعت أن تحتفظ بكل تلك الجذور ببساطة تكوينـها، وسيمتريتها، وتلخيصها البليغ. فلا عجب أن تكون موضوعا لعشرات اللوحات. 

◄ اقرأ أيضًا | كانت توزع على الفقراء والمساكين.. تاريخ الاحتفال بـ«عروسة المولد»

◄ عرائس ممدوح عمار
ألحت «عروسة المولد» على الفنان ممدوح عمار خلال فترة اغترابه فى أوروبا، كنوع من الحنين للوطن، فرسمها بعدة طرق، وظلت موضوعا أثيرا له طوال الستينيات، بخامات الجواش والأحبار والزيت والباستيل والكولاج. وقد قام بتحليل تكوينها، وأعاد تشكيله، مسائلا، وباحثا فى أبعاده المختلفة. أظهرت بعض لوحاته ذراعيها كنصفى دائرة تحتوى العالم بحب أنثوى لا محدود ولا نهائى. رسم عروسه مفردة، وفى مجموعات، ومن خلفها الهالات المضيئة، وأحيانا سوداء مصمتة، كأنما ليشير إلى طبقة غير مرئية. وبعض عرائسه تخلين عن سكرهن، لنرى شيئا حميما وإنسانيا داخلهن، فهن لسن مجرد تماثيل من الحلوى، ولكن تراكم من طبقات وجود أنثوى راسخ عبر التاريخ. ورغم أن الفنان عُرف طوال حياته بالوفاء لروحه المصرية والصدق فى التعبير عنها، إلا أن تجربته مع عروسة المولد كانت ذات خصوصية فى اقترابها التحليلى لعنصر من التراث الشعبى، لم يأخذه بسطحية، ولم يسع إلى التمسح فى أشكاله الجاهزة، ولكن أعاد خلقه، موازنا بين التعمق فى روح التراث، والتعبير عن مكنوناته، وصياغة ذلك ضمن رؤية فنية حديثة.

◄ بين السجيني والتوني
الرسام والنحات جمال السجينى هو الآخر قدم عروسة المولد فى عدة لوحات، وتماثيل ومنحوتات بارزة. وأهم ما يلفت النظر فى لوحاته تعبير عروسة المولد عن مصر، ملخصا الوطن فى أنثى من الحلوى، تفيض جمالا، مكللا بقداسة ومجد طفوليين. إنها نظرة بريئة وعميقة لما يعنيه الوطن، عنوانها البهجة. ولكن ذلك لم يمنعه من أن يبث فيه أحزانه أحيانا عندما يقتضى الأمر. فبعض عرائسة ظهرن مندهشات واجمات، وحتى باكيات، وكان ذلك تجسيدا لمشاعره بعد النكسة. وهو يرسمها مرات منتشية متوثبة، قادرة على الصمود من جديد. وهكذا فقد سحبها من أرضيتها التراثية، وبث فيها الحياة لتتفاعل مع لحظته التاريخية، ولم يتنازل فى كل الأحوال عن جعلها جميلة، وأميرة تستحق كل المجد، وإن توارى زخرفها.  

أما الفنان حلمي التوني، فقد رأى فيها موضوعا شعبيا، يبدو مكتفيا بذاته، لكنه يتصل متشابكا مع كل ما فى الوجدان الجمعى. فوضعها ضمن مشاهد مختارة مشبعة بالمعنى، بروح فنان شعبى، بالغ البساطة كعادته.

فرسم عروسة المولد كما نعرفها دمية من الحلوى فى يد فتاة جميلة شرقية ذات برقع شفاف، تركب دابة أسطورية مجنحة، لها رأس امرأة، ومكللة بتاج. أما الدابة فهى فرس خارج من أعماق التراث الدينى وألف ليلة وليلة برأس إنسانى أنثوى، وأجنحتها تتموضع على جانبى الفتاة، فتحيلها إلى فراشة، أو إلى عروسة مولد أخرى كبيرة، ومن خلفها الهلال بدلالاته الأنثوية ورمزيته كأمل وميلاد جديد. 

◄ عرائس بلا حدود
الفنان محمد الطحان رسم هو الآخر عروسة المولد ضمن مشروعه الممتد لرسم المفردات الشعبية، وحاول استكشاف المزيد من أبعادها الجمالية والتراثية، مركزا على الهالة التى تحيط برأسها، التى هى أيضا زهرة، وكأن الأنثى هى زهرة الوجود، أو كأنها الزهراء النقية فى صورتها المثالية. أما الفنان عادل حسنى فرسمها بالزيت على خلفية من كولاج أقمشة الخيامية المزخرفة التراثية، وكأنه يقول لنا هذه هى قطعة من التراث، وهى تقول كل شيء. ورسمها الفنان سعد زغلول تحملها أم تجلس إلى جوار ابنتها الشابة، بينما تمسك الفتاة حصان المولد الذى يحمل فارس الأحلام. وحتى الأجيال الجديدة ما زالت تجد فى العروسة إلهامات متجددة، رغم اندثار العروسة التقليدية تقريبا، ومنها لوحة عرضتها الفنانة فاطمة حسن عام 2020، وتحتفى فيها بالألق الأنثوى الطفولى من خلال عروسة فى المقدمة ومن خلفها أخريات بألوان قوية. 

◄ حصان وفارس
إذا كانت العروسة هى الرمز الاحتفالى الأنثوى، فالحصان هو دمية الطفل الذكر المصنوعة من السكر، يعلوه الفارس ممسكا سيفه. وهو أيضا مزين بالأوراق الملونة فى هيئة رايات، وصورته مألوفة فى التراث الشعبى، فلأول وهلة يذكرنا بحصانى أبوزيد الهلالى وعنترة بن شداد فى الرسوم الشعبية. وهو رمز الفروسية والقوة والشجاعة. ويحيلنا تكوينه أيضا إلى صور أقدم تمتد إلى حورس على حصانه، وهو يقتل برمحه التمساح رمز الشر الذى يشير إلى عمه «ست» فى الأسطورة. فالفارس على الحصان يمثل قوة الخير الموجهة ضد الأشرار. وستذكرنا أيضا بصور القديس «مار جرجس» على حصانه، وهو يقتل التنين، كما يظهر فى أيقونات أشهرها رسمها الفنان القبطى إبراهيم الناسخ فى القرن الثامن عشر. فالحصان المصنوع من الحلوى للاحتفال بالمولد النبوى هو قطعة من تراث متعدد الطبقات، وتجسيد معاصر يحمل تراكما حضاريا يمتد لآلاف السنين، وتنتقل بصمته الشعورية للطفل بينما يتأمل تمثاله الصغير، ويقضمه فيما بعد قطعا من السكر.  

◄ الليلة الكبيرة
الاحتفال بالمولد النبوى ومظاهره الشعبية، حظى باهتمام العديد من الفنانين. ربما كان أولهم راغب عياد الذى قدم لوحة على الأقل تصور الاحتفال. كما رسم مشاهد منه كلٌ من عمر النجدى وفرحات زكى وطاهر عبد العظيم وطه القرنى الذى قدم المولد فى جدارية كبيرة طولها 32 مترا، عُرضت فى مركز الهناجر للفنون عام 2008. الفنان محمد الطحان أيضا تناول المولد النبوى راسما ساحات الاحتفال ومظاهره وعروسة وحصان المولد. كذلك قدم الفنان إبراهيم البريدى أكثر من خمسين لوحة مؤخرا فى معرض حمل حسه الشعبى التلقائى، صوّر من خلالها كل مظاهر الاحتفال. وإذا كنا نتحدث عن الإبداعات التشكيلية المرتبطة بالمولد، فلا يمكن أن ننسى عرائس أوبريت الليلة الكبيرة الشهير، التى صممها الفنان ناجى شاكر.