المشروع الوطنى المصرى

إيهاب فتحى
إيهاب فتحى

..فى بعض الأحيان ينتاب المصريون نوعًا من القلق فى وقت الأزمات متصورين أن أمتهم قد تتعطل مسيرتها أمام تحديات الأزمة، ما يرفع حدة هذا القلق العامل الجديد الذى اقتحم حياة المجتمع البشرى وهو وسائط السوشيال ميديا، فحجم التشويش الذى تسببه الدعاية السوداء والممنهجة على هذه الوسائط ليس قليلا

حالة القلق هذه تعتبرمشروعة لأن منبعها العشق الشديد الذى يكنه المصريون لأمتهم لكن يجب أن تبقى هذه الحالة فى حجمها لا تتحرك إلى مساحة الفزع لأسباب متعددة وواضحة تقدمها الرؤية الشاملة للماضى والحاضر والمستقبل التى يفرضها العقل الواعى بعيدًا عن التشويش الممنهج، منذ تأسيس الدولة المصرية الحديثة قبل مايزيد عن قرنين والأمة تواجه التحديات وهى تحديات وجودية من أجل بناء مشروعها الوطنى المصرى الخالص. 

هذه التحديات فرضت على الأمة والدولة المصرية لأن القوى الاستعمارية فى العالم لا تريد لهذا المشروع الوطنى الظهور فما بالك بالنجاح ، لأن ظهور ونجاح هذا المشروع يهدد مصالحها فى المنطقة ولانبالغ إن قلنا فى العالم أجمع هذا الحقد الاستعمارى تجاه مشروع الأمة والدولة المصرية ليس منبعه إحساس هذه القوى أن الأمة المصرية تريد اقتطاع جزء من المصالح فى المنطقة والعالم وفق أساليبهم فى نهب وسلب الشعوب المستضعفة، بل على العكس لوكانت هذه فرضيات المشروع المصرى لتفاهمت هذه القوى الناهبة مع هذا المشروع وسعدت بقبول عضو جديد فى نادى اللصوص الدولى. 

الحقيقة أنه منذ اللحظة الأولى لتكون المشروع الوطنى المصرى استشعرت القوى الاستعمارية أن المشروع المصرى قادم من الجذور الحضارية المصرية لذلك فهو مشروع شريف تأسس على العدالة والنزاهة ولايهدف إلى استغلال الشعوب أو السيطرة على مقدراتها ونهب مواردها بل يسعى إلى مد يد المساعدة إلى هذه الشعوب وفتح باب التحرر لها والتقدم فى ظل شراكة عادلة ونزيهة. 

لم يكن مولد المشروع الوطنى المصرى نتاج لحظة سياسية عابرة أو قرار حاكم بل هو نتاج الوعى الجمعى للأمة عقب الصدام الحضارى الكبير مع الغرب كأحد نتائج الحملة الفرنسية على مصر، أدركت الأمة وقتها أن ميعاد التغيير قد حان وآوان الخروج من متاهات وظلمات العصور الوسطى لا يمكن أن يحدث إلا بتأسيس دولة حديثة تمتلك مشروعًا وطنيًا قادرًا على مواجهة التحديات والأخطار والأفكارالاستعمارية التى تحرك الاساطيل الغربية من أجل غزو هذه الأرض الطيبة. 

السير فى طريق تأسيس الدولة الحديثة وقتها كان عودة إلى الجذور المصرية وليس تقليدًا لمفهوم الدولة التى أقامها الغرب لأن فكرة الدولة نفسها هى فكرة مصرية أصيلة من نتاج الحضارة المصرية ، الحضارة التى وضعت فكرة الدولة موضع التنفيذ وأدارت بها شئون الأمة والمجتمع وما كان الغرب سوى مقلدا للأصل المصرى. 

كل من عمل على تأسيس الدولة المصرية الحديثة ومشروعها الوطنى من المصريين الوطنيين كان يعلم جيدا حجم التحديات التى تواجه المشروع وعلى رأسها استهداف القوى الاستعمارية لقلب المشروع وهو الجيش المصرى هذا الجيش الذى حمى الدولة منذ لحظة التأسيس إلى الآن وخاض حروبها العادلة من أجل الدفاع عن مقدرات الأمة المصرية. 

لأن السير فى هذا الطريق من أجل النهوض لم يكن سهلا أو هينًا فكان مقدار الصدام ضخمًا فبعد عقود قليلة من تأسيس الدولة المصرية الحديثة استطاع الجيش الذى انصهرت داخله كل مكونات المجتمع ليصبح ممثلا لروح الوطنية المصرية حماية مقدرات الأمة ووضع خرائط أمنها القومى فى دائرة الرؤية والتحقق، عند تلك اللحظة الفارقة تناست كل القوى الاستعمارية خلافاتها واتحدت كقطيع الذئاب من أجل مواجهة المشروع الوطنى المصرى هذا المشروع الخطر على مصالحها غير الشريفة فكانت معاهدة لندن 1840 والتى أرادت منها تحجيم المشروع الوطنى والسيطرة عليه وظنت أن المعاهدة اللندنية قادرة على ذلك وعلى رأس بنودها إضعاف الذراع القوى للأمة والدولة المصرية ممثلا فى جيشها. 

رغم قوة الصدام وحصار هذه المعاهدة الجائرة إلا أن المشروع الوطنى المصرى اكتسب منذ لحظة تأسيسه قوة دفع حضارية هائلة تتمثل فى قوته الناعمة وتكون الطبقة الوطنية المثقفة التى بدأت تسترجع مفهوم الهوية المصرية وتعمل على ترسيخه فى المجتمع والشخصية المصرية بالإضافة أن فى هذه الفترة من القرن الـ 19 أضيفت فى حساب القوة الاستراتيجية المصرية قناة السويس لتصبح موازيين حركة التجارة الدولية ومعادلات الاقتصاد العالمى مرتبطة بالسويس وقناتها حتى الآن. 

رأت القوى الاستعمارية وعلى رأسها بريطانيا وقتها أن تمدد المشروع الوطنى المصرى وتحوله إلى منارة فى محيطه على المستوى الحضارى يعنى أن فعل الصدام المباشر قد حان وبالخديعة والمكر كعادة الاستعمار تمكنت بريطانيا من احتلال مصر فى سبتمبر 1882 .

كان يمكن هنا أن يشهد المشروع الوطنى نهاية مؤلمة بسبب الإجراءات التى اتبعها المحتل وغرضها تقويض أركان هذا المشروع الخطر على المصالح الاستعمارية لكن كانت الفترة بين يوم الاحتلال وثورة 1919 هى فترة تأكيد أن المشروع الوطنى المصرى لايمكن أن ينتهى لأنه ترسخ بقوة فى وجدان الأمة وماكانت هذه السنوات حتى قيام ثورة 1919 إلا استراحة محارب للمشروع وأصحابه ليعود بعدها ويستكمل رسالته وتتحول مصر فى النصف الأول من القرن العشرين إلى البلد الأهم فى الشرق والمنافس الحضارى للغرب من خلال الطبقة الوطنية المثقفة التى تكونت مع تأسيس الدولة المصرية الحديثة.

رغم هذا النجاح الحضارى للمشروع إلا أن هناك جانبًا ظل يؤرق الأمة المصرية صاحبة المشروع وهو استقلال القرار الوطنى والتحرر من الاحتلال البغيض وبالفعل كانت الانطلاقة الثانية مع ثورة 23 يوليو بقيادة طليعة الأمة من قواتها المسلحة وسط تأييد شعبى جارف حتى تكتمل أركان المشروع وفى خلال سنوات قليلة انطلق المشروع الوطنى المصرى بقوة دفع هائلة ليستعيد حقوق مصر المسلوبة وأولها قناة السويس ويعود من جديد الصدام المباشر مع القوى الاستعمارية فى حرب السويس وتحقق الأمة المصرية ومشروعها الانتصار على القوى الاستعمارية لتبدأ انطلاقة قوية خارجية للمشروع المصرى من أجل تنفيذ جانب هام من مهمته وهو تحرير الشعوب المستضعفة من نير الاحتلال وعادت القوى الاستعمارية تتربص بهذا المشروع الذى يهدد مصالحها وإن كانت فى تلك اللحظة من التاريخ تسلمت الراية الاستعمارية الولايات المتحدة الأمريكية بعد سقوط بريطانيا وفرنسا فى حرب السويس. 

لم تدير الولايات المتحدة الصراع ضد المشروع الوطنى المصرى على الطريقة البريطانية وابتعدت عن الصدام المباشر وإن كانت تسلمت من بريطانيا أدوات هامة لإدارة الصراع متمثلة فى قاعدة استعمارية متقدمة على المستوى الجغرافى هى إسرائيل وقاعدة خدمات سرية للاستعمار فى الداخل المصرى هى جماعة الإخوان الفاشية. 

استطاعت الأمة المصرية بالحرب والانتصار فى اكتوبر 1973 ثم سلما بعدها بسنوات أن تحجم عمل القاعدة الاستعمارية الغربية الجغرافية أو إسرائيل أما قاعدة الخدمات السرية أو جماعة الإخوان الفاشية فبقيت فى حالة من الكمون والترقب انتظارًا للحظة مناسبة وأمر من المستعمر الذى يدير هذه القاعدة من أجل الانقضاض على المشروع الوطنى المصرى لأن السبب الرئيسى فى إنشاء هذه القاعدة السرية الإخوانية على يد بريطانيا ـ التى مازالت لندن تحتضنهم إلى الآن ـ كان ضرب المشروع الوطنى المصرى من الداخل بعد ثورة. 1919 

تزامن أمران جعل الفيروس الإخوانى يخرج من حالة الكمون إلى النشاط أولهما خطأ سياسى فادح ارتكبه النظام فى سبعينيات القرن العشرين بمحاولة استخدام هذه الجماعة الفاشية فى مواجهة قوى سياسية مصرية ولم تمض سنوات قليلة إلا واكتشف من كان وراء هذا الخطأ مدى كارثيته حيث انطلقت رصاصات وقنابل الإرهاب الأسود بعدها وأصاب المجتمع ما أصابه من الأفكار السوداء للفاشية الدينية ، الأمر الثانى مع بداية الثمانينيات إلى وقوع أحداث يناير 2011 حيث دخل المشروع الوطنى المصرى فى حالة من الجمود الشديد على المستويين الداخلى والخارجى. 

استمرت هذه الحالة من الجمود ثلاثة عقود مكنت الجماعة الفاشية وبمساعدة استعمارية  من تنظيم نفسها استعدادًا للحظة مناسبة كان الاستعمار يهيئ فيها المنطقة لموجة من الاضطرابات اومايسمى بالربيع العربى أو الثغرة التى يتسلل منها الفاشيست إلى السلطة فى أغلب دول المنطقة وعلى رأسها مصر بهدف توجيه ضربة نهائية للمشروع الوطنى المصرى والأخطر أنها من الداخل. 

فى تلك اللحظة الفارقة كان تحرك الأمة المصرية بثورتها على هذا التسلل الفاشى الاستعمارى فى الـ 30 من يونيو 2013 وسنجد دائمًا أن الثورات هى المحرك للمشروع الوطنى المصرى عن طريق إعطائه دفعة هائلة تجعله يعود إلى مساره ومنطلقًا إلى تحقيق أهدافه. 

بعد هذه الإطلالة السريعة على المشروع الوطنى والتحديات التى واجهها على مدار ما يزيد عن قرنين من الزمان يبقى سؤال هل تنحت التحديات والأخطار المحيطة بالمشروع الوطنى المصرى جانبا ؟ الإجابة أنه بعد انطلاق ماكينات المشروع بكامل طاقتها عقب ثورة الـ 30 من يونيو زادت شراسة الصراع والتحديات وإن اختلفت تفاصيل هذا الصراع عماحدث سابقًا. 

اختلاف التفاصيل يقول إن الاستعمار بوجهيه القديم والحديث لا يلجأ إلى الصدام المباشر لأنه هزم فى كافة المواجهات السابقة وتبقى له الحرب الدعائية السوداء التى يديرها له عملاء قاعدته السرية والعلنية الآن من الفاشيست الإخوان والغرض الأول لهذه الحرب الممنهجة التشكيك فى جدوى المشروع الوطنى ذاته من خلال تفتيت تلاحم الجبهة الداخلية للأمة الحاضن الرئيسى للمشروع الوطنى المصرى. 

إذا كانت  تفاصيل الصراع  الحالى شرحت طبيعة المعركة فالثلاثى الزمنى التاريخ والحاضر والمستقبل لهم رأى ثابت هو أن الخبرات التى اكتسبتها الأمة المصرية طوال بنائها لمشروعها الوطنى و نضالها من أجله تؤكد حتمية استمراره ثم تحقيق أهدافه معلنًا انتصاره. 


 

;