قلب وقلم

عبدالهادي عباس يكتب: دراما مكيف الهواء!

عبدالهادي عباس
عبدالهادي عباس

لم تعد فنون الدراما مجرد أدوات للتسلية وتزجية أوقات الفراغ، وإنما أضحت إحدى وسائل التوجيه النفسي والأخلاقي التي ترتكن إليها الدول الكبرى في نشر قيمها التربوية التي ترجوها لأبنائها، وكذلك أفكارها السياسية التي تدعم حق الوطن وواجبات المواطن، مع بث الأفكار القومية التي تذكّر ببطولات الدولة وتضحيات أبنائها من أجل الدفاع عن وجودها؛ وهذه الأفكار رأيناها كثيرًا في الدراما المصرية الأصيلة والتي أقبل عليها المشاهدون لأنها تمسّ شغاف قلوبهم وتُدخلهم في أحداثها تعاطفًا مع البطل الوطني ورفضًا لمخاتلة الخائن وألاعيب العدو.

رأينا ذلك في: "دموع في عيون وقحة" و"الثعلب" و"الحفار" و"رأفت الهجان" و"الاختيار"؛ وحتى الدراما الاجتماعية في: "ليالي الحلمية" و"المال والبنون", و"الشهد والدموع" و"الوتد" و"لن أعيش في جلباب أبي"، وعشرات الأعمال التي بذل فيها الممثلون والمخرجون مجهودات ضخمة، فضلًا عن القصة الجيدة، فأقبل عليها الجمهور بالمتابعة المستمرة، ولا تزال أمثال هذه الأعمال تحصد نسبة مشاهدات عالية جدا حتى لو تكررت إذاعتها بصورة دورية.

ستون حلقة كاملة ابتُليت بمشاهدتها أنا وأسرتي من مسلسل "المماليك"؛ إذ كانت تُذاع مُعادة ثلاث حلقات مجمّعة يوميا في وقت طعامنا؛ وهو ذنب أستغفر الله منه، وخطأ أتجنب دومًا الوقوع في شِراكه الخادعة، فليست عندي رفاهية الوقت الذي أضيعه في مشاهدة دراما الفيلات والشاليهات ومكيفات الهواء؛ دراما يدخل الأبطال إلى الفيلا في مشهد ويخرجون منها في مشهد آخر، حيث نرى حلقات كاملة يجلس المؤدون فيها إلى مكاتبهم يتبادلون الحديث حول الدجل والشعوذة وعرض مفاتن الجسد بلا أي وازع درامي، مع بيان طرق النصب والاحتيال وكيفية استغلال الفقراء والمساكين ونهب أموالهم؛ دراما البطل "الطيب" فيها تاجر آثار أو زانٍ أو شارب خمر، أو أهطل لا يُقدر الواقع ولا يعرف حتى كيف يُربي أبناءه!

إذا حاسبنا دراما "المقاولات" المنتشرة بقوة الآن نقديا بمنطق الفن للفن، فلن نجد بها أي فنيات كتابية أو إخراجية أو تصويرية أو تشويق درامي تتكئ عليه الأحداث، أو حتى المكياج والملابس؛ حيث إن البطلة التي عاشت وتربت في الأحياء الشعبية تظهر بكامل زينتها وأناقتها، تلبس بلا ملابس، وتعيش حياتها مع الرجال، وتكسب ملايين الدولارات من الهواء وتقتل ابنها، في سياقات فجّة ومتنافرة، وكأننا نعيش في كوكب تومي وجيري! وإذا حاسبناها بمنهج الفن للأخلاق ستخرج خاسرة أيضًا، لأن مصر ليست "قاتمة" حتى في عصر المماليك الذين شوّه الفرنسيون والعثمانيون تاريخهم، وهم على بعض المساوئ فيهم قد عمّروا الوطن ودافعوا عنه بأرواحهم؛ كما أن واقعنا مهما بلغت مآزقه لا يُمكن أن يكون كذلك في وطن آمنٍ بأمر الله: {ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين}، وهو كنانة الله بأمر رسوله، وحتى بالعُرف والتجربة كان القدماء يُسمون بلادنا "مصر المحروسة"؛ لا يُعقل أن يتحدّث العالم كله عن بلادنا ذاكرًا جمالها وأخلاقها، ونحن نعضّ أيدينا ونأكل لحومنا ونتحدّث بإفك ودونية عن وطن يُقدّم لنا كل شيء ولا ينال منا غير النهش!

أيها المهرجون انظروا حولكم لتروا كيف تغزونا الدراما الهندية العابرة للقارات، أو الدراما القومية التركية، بل إن الدراما الصينية أضحت تبحث عن مكانها على مائدة المشاهد العربي الذي يتقمم ما يُرمى إليه دون انتقاء؛ بالطبع لا أصادر على حق أحد في عرض رؤية فنية يراها، أو حتى في مكسب سريع يسعى إليه، شرط ألا يكون ذلك على حساب زعزعة أخلاقياتنا الراسخة، أو تماسك وطننا وتلاحم أبنائه، أو العبث في تشكيل عقلية أبنائه وأبطاله المُقبلين.

[email protected]