يوميات الاخبار

دقائق الصمت فى اليابان.. سياسة بلا تعقيد

داود الفرحان
داود الفرحان

داود الفرحان

يؤكد هذه الظاهرة الحضارية أستاذ الدراسات اليابانية والترجمة وعلم النفس فى جامعة طوكيو الدكتور المؤمن عبد الله، وهو مصرى وله أبحاث مهمة فى الأدب واللغة اليابانية.

من لا يعرف اليابانيين جيداً يظن أن الشعب اليابانى شعب شبه أخرس! فهو غير مغرم بالكلام على عكس الحال عند غيره من الأقوام الأخرى، التى تعتقد أن الكلام والثرثرة والفلسفة اللسانية متعة من متع الحياة، التى ينبغى الاستمتاع بها إلى آخر نفس. واللغة اليابانية نفسها لغة عملية لا تميل إلى الترهل والجمل الزئبقية، التى تحتار فى كيفية الإمساك بها وفك طلاسمها. وهى ليست لغة الإطناب والإسترسال والكلمات الجوفاء والمفردات المبهمة. الله !!!!على لغتنا العربية الجميلة.


والشكر واجب للأديب العراقى عدنان عباس الحمدانى الذى يشير فى كتاب عنوانه «تعلم اليابانية»، صدر فى بغداد عام 1985، إلى أن هناك عدة لهجات فى اليابان مثل معظم الدول، لكن اليابانيين بإمكانهم التفاهم بما يسمى «اللغة اليابانية القياسية» أو الكلاسيكية، وهى اللغة التى تُدرس فى المدارس والجامعات، وتستخدم فى الوثائق الرسمية والكتب ووسائل الإعلام.


يستغرب الإعلاميون الدوليون والدبلوماسيون صمت السياسيين اليابانيين فى المؤتمرات الصحفية، إلا من بعض الجمل التقليدية للترحيب أو هز الرأس قليلاً لتحية الموجودين، مع قليل من إنحناء الظهر.
علاج يابانى لزلات اللسان
من ميزات اللغة العربية أنها سريعاً ما تختار التعبير المناسب لصفة ما فى ميزان العقل الياباني، فقد فاجأتنا بعبارة «فراغات أو دقائق الصمت»، أى أن هناك فراغاً صامتاً بين جملة وأخرى، بحيث قد ننسى الجملة الأولى قبل أن يطلق المسئول الجملة المكملة للجملة السابقة. وفى الواقع يبدو أن هذا الأمر «مصطنع» فى السياق الدبلوماسى الياباني، وهو ليس معيباً، بل ذكياً لتجنب الأخطاء السياسية التى نسميها فى اللغة العربية «زلّة لسان». وكما نعلم أن هذه «الزلّة» قد تخرق الأعراف السياسية، وتسبب «أزمة»!
فى الثمانينيات من القرن الماضي، وخلال الحرب العراقية - الإيرانية ترأستُ وفداً عراقياً ضم مندوبين عن وزارة الخارجية والدفاع وثلاثة أسرى عراقيين معوقين، أحدهم عربى والثانى كردى والثالث مسيحي، أطلقت إيران سراحهم مقابل إطلاق العراق سراح ثلاثة أسرى إيرانيين معوقين أيضاً. وشملت الزيارة تايلاند واليابان وأستراليا، وهدفها مفاتحة إيران لإنهاء الحرب مع العراق التى استمرت سنوات، وسقط فيها آلاف القتلى والجرحى.


حوار عراقى - يابانى بلا مترجم
ونظمت وزارة الخارجية اليابانية اجتماعاً لوفدنا مع أحد الأحزاب اليابانية، لتجنب سوء تفسير الهدف من الرحلة لأنها غير سياسية. وألقى رئيس الحزب اليابانى كلمة ترحيب بالوفد «الإيراني»، وكان يقصد الوفد «العراقي»، فقاطعته قائلاً إن وفدنا عراقى وليس إيرانياً. فتشاور مع رفاقه الحزبيين، ثم عاد ليقول بعد دقائق صمت أنه يقصد الوفد العراقي. وهذا الصمت هو «فراغ الصمت» الذى قد يُفسر بغير المقصود.


باختصار: إن اليابانيين من أكثر شعوب الأرض ترشيداً فى الكلام، فهم لا يتكلمون إلا إذا سألهم أحد، وإذا سألهم فإن الجواب على قدر السؤال: نعم أو كلا. وهناك ابتسامة فوق البيعة! ولذلك فإن مقالات الصحف اليابانية قصيرة وتفى بالغرض.. قبل الوقوع فى زلّة لسان!
لم يكن معنا أى مترجم لليابانية، ولا معهم أى مترجم للعربية. وقد استعنتُ بكلمة مطبوعة قصيرة باللغة الإنجليزية لتحية اليابان والشعب اليابانى وشكرنا لاستقبالهم لنا. وقدمتُ الأسرى الثلاثة، وأوضح ممثل وزارة الخارجية العراقية الهدف من الزيارة، وانتهى اللقاء بعد أن شربنا الشاى على أمل أن يزورونا فى بغداد.. طبعاً فى المشمش! ولم يتردد أحد الأسرى بالإشادة بالمنتخب اليابانى لكرة القدم.
إن اللغة اليابانية من اللغات التى تبدأ بسيطة ثم تتعقد كلما تعمقت فيها. ومع ذلك فإن المتحدثين باليابانية فى الوطن العربى قليلون، وتستخدمهم الشركات الكبرى. وفى الإتجاه الآخر هناك إقبال يابانى على تعلم اللغة العربية للعمل فى دول الخليج العربي. وتباع فى المكتبات اليابانية كتب لتعليم اللغة العربية بدون معلم. وهناك فى المكتبات التجارية رفوف من كتب نجيب محفوظ ومحمد حسنين هيكل، ودواوين شعراء رواد ومعاصرين مثل نزار قبانى وكلها باللغة اليابانية. لكن من النادر أن تجد فى المكتبات العربية كتباً لتعليم اللغة اليابانية.
ثقافة الاستماع إلى الآخر
وطوال الجولة فى طوكيو لاحظنا أن التواصل بين الشعب اليابانى يقوم على الاستماع أكثر من التحدث. ولا تجد علاقات اجتماعية أو سياسية أساسها الثرثرة كما هى لدى أقوام آخرين. ويعتبر اليابانيون نظرية الصمت بأنها سياسة بلا تعقيد. وحتى لا نحصر هذه الميزة باليابان وحدها، فإن المجتمع الكورى وكذلك الفيتنامى والتايوانى يميل الى الصمت أكثر من الحديث. وهم يعتبرون ذلك «ثقافة الاستماع إلى الآخر»، وعلى النقيض من الصمت يصفون الثرثرة بأنها شكل من أشكال الإزعاج للآخرين، أو إضاعة وقت بلا فائدة اجتماعية. ويؤكد هذه الظاهرة الحضارية أستاذ الدراسات اليابانية والترجمة وعلم النفس فى جامعة طوكيو الدكتور المؤمن عبد الله، وهو مصرى وله أبحاث مهمة فى الأدب واللغة اليابانية.


ولعل أهم ثلاثة أسباب لتعلم اللغة اليابانية، الأول أن اليابان لديها ثالث أكبر اقتصاد فى العالم، والثانى تعلم اللغة اليابانية يمكن أن يعزز لدى الراغبين حياتهم المهنية. والثالث إن دراسة «اليابانية» تفتح الأبواب أمام ثقافة عالمية توسع الآفاق فى مختلف المجالات من الآداب الى الاقتصاد الى السياسة الى العلوم. إلا أن تعلم هذه اللغة ليس سهلاً مثل «دقائق الصمت» التى أشرنا إليها قبل سطور، فهى تحتاج الى جهد ووقت كبيرين، لأنها واحدة من أصعب اللغات فى العالم، وينطق بها أكثر من 130 مليون ياباني. ويصف البعض هذه اللغة بأنها «معزولة»، إلا أنها تبقى لغة عالمية، وهى كانت تُكتب من اليمين الى اليسار كاللغة العربية فى فترة من الفترات قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية. وينصح البعض الراغبين فى تعلم اليابانية بسرعة الاستماع للأغانى اليابانية وحفظها، حتى وإن كان يجهل معناها!
ونحن نتحدث عن اليابان فلا بأس فى نبذة تاريخية عن هذا البلد الصديق. فاليابان ليست بلداً أكثر عراقة إو إيغالاً فى التاريخ القديم، لأن الصين أقدم منها كدولة أو إمبراطورية. وكانت عزلة اليابان نتيجة لجغرافية المحيطات التى تحيط بها، وصعوبة الهجرة إليها فى العصور القديمة. ومع ذلك فإن الحروف والمنقوشات تؤكد إن أول إنسان وصل الى اليابان كان منذ أكثر من 30 ألف عام. وطبعاً لا ينفع أى جدال مع أى يابانى فى هذا الشأن؛ إذ إن الجو العام فى هذا البلد الفريد يقول إن الإنسان اليابانى هو أول إنسان مشى على سطح الأرض! مشى إلى أين؟ لا أحد يعلم. ولا تستطيع الجدل أو الإسترسال فى الحديث، لأن النظرية اليابانية الحديثة هى «دقائق الصمت» بدلاً عن الثرثرة التى يعتبرها اليابانى «قلة أدب»!


اليابان مرت مثلنا بالعصر الحجري
ومثل معظم الحضارات مرت اليابان بالعصر الحجري، ثم كانت الخطوة الأولى بالإنتقال من عصر صيد الأسماك الى زراعة الأرز وحصاده. وبدأت الممالك بين القرنين الرابع والخامس الميلاديين، حيث فاتحة بناء المدن وحكم النبلاء والعروش والمعابد والكتابة والساموراى والإقطاع، ثم فى عام 1543 أدخل الغزاة البرتغاليون الأسلحة النارية الى اليابان. وتدريجياً بدأ عصر التجار مع إزدهار التجارة الخارجية وانفتاح البلاد على العالم الخارجي. وتم توقيع أول معاهدة سلام بين اليابان والولايات المتحدة. لكن عام 1894 شهد إندلاع الحرب بين اليابان والصين.
إنها قراءة سريعة للتاريخ القديم لهذا البلد اللغز، الذى كاد أن يبتلع الولايات المتحدة الأمريكية ويهزمها فى الحرب العالمية الثانية، لولا أول قنبلتين ذريتين أمريكيتين ألقتهما طائرة أمريكية على مدينتى هيروشيما وناجازاكى واستسلام إمبراطور اليابان.
ولإمبراطور اليابان الحالى جانب من «دقائق الصمت» التى تحميه من زلات اللسان، فهو مقيد بالدستور، ودوره رمزى للغاية، ويشار إليه كقائد للدولة وعميد للعائلة الإمبراطورية. كما إنه أعلى سلطة فى ديانة «الشينتو»، ويعتبر حسب الدستور رمزاً للدولة ولوحدة الشعب، ولا تتعدى سلطاته هذا الدور. وتعتبر العائلة الإمبراطورية اليابانية أقدم ملكية وراثية مستمرة الى اليوم فى العالم.


ومنذ منتصف القرن التاسع عشر أصبح القصر الإمبراطورى مقر سكن الأباطرة على التوالي. ورغم أن الإمبراطور هو من يعين رئيس الوزراء فى منصبه إسمياً فالدستور يلزمه بتعيين المرشح الذى يختاره البرلمان اليابانى دون إعطاء الإمبراطور صلاحية رفض تعيين المرشح. إنها الديمقراطية الصامتة أو «فراغات الصمت» أو سياسة بلا تعقيد.
الشعب اليابانى لا يتدخل فى السياسة كثيراً، عدا حوادث مستنكرة، مثل إغتيال رئيس وزراء اليابان السابق شينزو آبى فى تجمع إنتخابى فى طوكيو فى عام 2022 ما سبب صدمة شعبية فى الشارع الياباني.


كل شيء فى كوكب اليابان مختلف، فالأجهزة الإدارية فى الدولة هى التى تتبنى السياسة الخارجية المحايدة، متجنبة «قفص» البيروقراطية والنظم القديمة. ومرت عقود من الإصلاح الإدارى قبل أن يتم التركيز على المحور السياسى باحترافية عالية واستقلالية فى رسم سياسات «الدولة» وليس «الإدارة» فقط.
من النادر أن تجد أحداً من اليابانيين يتسكع فى الشوارع، فالوقت له ثمن، وكل شيء محسوب بدقة، واليابان بلد عمل. والمؤسسة الصناعية اليابانية سلطة داخل الدولة، لها دستورها وقوانينها وأرضها وشعبها ورئيسها وقوات أمنها ومحطات إذاعة وتليفزيون وصحف ومجلات ودور سينما ونوادٍ ومطاعم ومجمعات سكنية ومستشفيات ووسائل نقل برية وجوية وبحرية وفروع فى الداخل والخارج. أمر مهم أن ينتهى هنا المقال عملاً بحكمة اليابانيين «فراغات الصمت».