من الغرابة إلى الطبيعة المعلبة| «عمارة المستقبل» مبانٍ راقصة وأخرى مقلوبة

من العمارة الخضراء فى ساو باولو البرازيلية
من العمارة الخضراء فى ساو باولو البرازيلية

■ كتب: رشيد غمري

يقف فن العمارة عند مفترق طرق، بعد قرون من استعراض العظمة والفخامة، وقرن من الحداثة النفعية، وعقود من الغرابة، أدهشتنا بأبنية تحدت قوانين الطبيعة، وسخرت من المنطق، وقلبت معايير الجمال التقليدية. الآن تضع التحديات البيئية والمناخية المصممين أمام حتميات تتعلق بالاستدامة والعضوية والعودة للطبيعة، وهو ما ظهر من خلال عمارة المستقبل، والتى تتراوح بقلق بين أنماط موغلة فى الحداثة، وأخرى تحتمى بالطبيعة.

■ البيت الملتوي من الخـارج

يمكننا أن نستحضر تاريخ البشرية من خلال نماذج معمارية، تمتد من كهوف العصر الحجري إلى أهرامات مصر، وأبنية اليونان الكلاسيكية التى أعيد استلهامها فى عصر النهضة، وصولا إلى حقبة الحداثة، والتى تميزت عمارتها بتجريد وصل إلى حد التقشف والنمطية، حيث ساد ما يعرف بالطراز العالمى الذى رسخته مدرسة «باو هاوس» فى ألمانيا. لكن هذه العمارة النفعية كانت الدافع وراء ظهور العمارة ما بعد الحداثية التى تصالح أحد مساراتها مع التراث، والزخرفة مجددا، بتوظيف جديد، ودون تقيد بطابع محدد، كما اتجهت مسارات أخرى إلى التفكيك، من خلال العمارة المهدمة والملتوية والسائلة والمقلوبة رأسا على عقب. وهو ما جعل العقود الماضية ساحة لاستعراض الغرابة، من خلال أبنية تثير الدهشة بتعارضها مع المتعارف عليه. الآن يتصدر مصطلح عمارة المستقبل اهتمامات المعنيين بالإنشاءات.

■ من العمارة الخضراء في ساو باولو البرازيلية

وهو مصطلح ينسحب على الأبنية التى تراعى الأبعاد البيئية، وتحرص على الاستدامة وتوفر الطاقة. ومما يثير الدهشة أن ما يطرح، وكأنه عودة للطبيعة يظهر فى هيئة أبنية مصطنعة، وأبراج زجاجية، تحمل مئات الأشجار، وأنظمة تكنولوجية معقدة، يدار بعضها بالذكاء الاصطناعي

◄ اقرأ أيضًا | جامعة مصر للمعلوماتية تفتتح مسابقة «ميتافيرس للشركات الناشئة»

■ مبنى السلة في أوهايو الأمريكية

◄ غرابة عبر التاريخ 
رغم وجود طابع معماري خاص بكل حقبة حضارية، لكن ومنذ فجر التاريخ، ظهرت نماذج خارجة عن المألوف. وحتى الحضارات الكبرى وعلى رأسها المصرية القديمة، والتى تعتبر فى مجملها استثنائية، اشتملت ضمن بعض تفاصيلها على أعمال غريبة عن سياقها العام، مثل الهرم المنحنى فى دهشور، والذى يبرر بخطأ فى التصميم، وهو تبرير غير مقنع.  كذلك معبد حتشبسوت فى الدير البحرى بتصميمه الفريد، وهرم ميدوم، وهرم أبو رواش، فكلها نماذج غريبة لم تتكرر. وإذا كانت العمارة القوطية فى أوروبا فى مجملها ذات طــابع غـريب، بضخامتها، وخطوطها، ومهابتها، واقترانها بمنحـوتات مرعـبة، فهـى أيضــا تضم نماذج أكثر غرابة.

■ أول غابة عمودية من مدينة ميلانو الإيطالية

وآخرها «كنيسة ساجرادا فاميليا» فى برشلونة، والتى بدأ العمل بها عام 1882، وما زال مستمرا حتى الآن. وهى من تصميم المعمارى «أنطونيو جاودي» الذى رحل عام 1926 بعد أن قضى نصف عمره فى تصميمها، وبنائها على طراز هجين بين «القوطي» و«الأرنوفو»، ويعتبرها بعض النقاد أغرب تفسير للطابع القوطي.

وهى تضم مجموعة كبيرة من الأبراج يحمل كل منها اسم شخصية توراتية. وجرى مؤخرا استخدام تقنيات حديثة لتسريع البناء، ويتوقع الانتهاء منها خلال السنوات القليلة القادمة. وهى مصدر جذب سياحى للمدينة.  

■ من العمارة الخضراء في ساو باولو البرازيلية

◄ بيوت ملتوية وراقصة
فى عام 2004 بنى فى مدينة «سوبوت» فى بولندا ما يعرف بالبيت الملتوي، ويعتبر من نماذج حركة ما بعد الحداثة، ويحيلنا إلى أجواء خيالية بسبب خطوطه المتموجة، وأشكاله المنحنية التى تعطى طابعاً سيرياليا يذكرنا بلوحــة الساعـات لسلفــادور دالي. وهو يستخدم كمبنى تجارى يضـم العديد من المتاجر والمقاهى والمطاعم. 

وضمن ما بعد الحداثة هناك مبنى أقدم فى مدينة «كان» الفرنسية، يعرف بقصر الفقاعات بدأ إنشاؤه عام 1975، واستكمل عام 1989 وهو لمصمم الأزياء الفرنسى الشهير «بيير كاردان» ويتخذ شكل فقاعات، تمنح شعورا بالمرح، واللعب. وفراغه الداخلى رشيق وسائل بلا زوايا أو جدران بالمعنى المتعارف عليه. كما أنه محاط بحدائق ومناظر طبيعية، تجعله يشبه رغوة على سطح الطبيعة. وعلى نقيض السيولة والنعومة تظهر «كاتدرائية جنك» بمدينة «أوستن» الأمريكية كنموذج مغاير لعمارة ما بعد الحداثة. والتى بدأ بناؤها عام 1988، وهى أشبه بحديقة منحوتات بناها الفنان «فينس هانيمان» على مدار عدة عقود. وتتكون بالكامل من المواد المهملة والخردة، وتتطور وتنمو وفق خيال صانعها. كذلك هناك «البيت الراقص» بمدينة براغ التشيكية والذى بنى (1996)، ويعرف أيضا باسم «فريد وجينجير» على اسم الراقصين «فريد أستير» و»جينجر روجرز» وهو من تصميم المعمارى الكرواتى «فلادو ميلونيتـش» بالتعــاون مـع الكـندي «فرانك جيري»، وهو مثال رئيسي على التفكيك فى الهندسة المعمارية كملمح ما بعد حداثي، بخطوط منحنية، وأشكال غريبة، تمنح إحساسا بالسيولة. 

ويعتبر مبنى السلة فى «دريسدن» بولاية أوهايو مثالاً آخر على الهندسة المعمارية غير العادية. وتم الانتهاء منه عام 1997، وهو على شكل سلة عملاقة، ويستخدم كمقر لشركة متخصصة فى صنعة السلال. 

■ عمارة المستقبل الخضراء كما يتصورها المصممون

◄ علب كبريت وبيوت مائية
أحد النماذج الغريبة فى فن العمارة الحديثة أيضا ما يعرف بمنازل علب الكبريت، والتى تتميز بكونها صغيرة للغاية. وقد سعى مصمموها لابتكار الحلول بحيث تؤدى الغرض منها فى أضيق مساحة ممكنة، وبعضها قابل للحركة. وقد اشتهر هذا النمط بعد تصميم قام به المعمارى «جى أوستن». وأغلب تلك البيوت صديق للبيئة، ومستدام، ويعمل بالطاقة الشمسية والمتجددة. كما تتميز بقلة تكاليفها، ولذلك تجد رواجا، خصوصا كبيوت لمناطق الطبيعة النائية والمنتزهات، والغابات. أحد أصغر هذه البيوت بنى على مساحة 12 مترا من طابقين، ويقع فى مدينة «وارسو» ببولندا. 
ولأنه لا شىء يقف أمام خيال المصممين، فحتى المياه صارت مادة للبناء فى لون من العمارة الحديثة يعـرف بالبيوت المائية، طــرحــه المصــمم المجرى «ماتياس جوتاي». 

■ قصر الفقاعات جنوب فرنسا

◄ عمارة المستقبل
يرتكز مفهوم عمارة المستقبل على الاستدامة، وكيفية العيش المشترك دون إضرار بالبيئة والموارد الطبيعية. ويصل المفهوم إلى حدوده القصوى بالنبذ الكلى لفكرة البناء. وسيندهش الكثيرون عندما يسمعون الشعار المرفوع فى أوروبا حاليا وهو «من لا يبنى يساهم فى الحفاظ على البيئة». وما قد يراه البعض أحلاما، قد دخل حيز التخطيط مع جداول زمنية للوصول إلى حالة الحياد المناخي، أى عدم إضافة أى انباعاثات حرارية بحلول عام 2050، ما يعنى الاستغناء عن العديد من طرق ومواد البناء. وهو ما يجعل السباق على أشده من أجل خلق عمارة بخامات جديدة، تسهم فى تحسين جودة المناخ، وتوقف انبعاثات الكربون. ومنها أفكار تجسدت فى إنشاءات على أرض الواقع مثل البيت الشجرة، والمدينة الغابة. 

المعمارى الإسبانى «فينشينته جوايار» تبنى الفكرة بشكل عملى فى مدينة برشلونة، ويعمل حاليا على ربط المدينة بالطبيعة. ومثال على ذلك إعادة تأهيله لمبنى شيده المعمارى الفرنسى «جون نوفيل» يقع فى قلب منطقة تقاطعات مزدحمة، وقام بإعادة تأهيله بمسطحات خضراء، ومتنزه علوى أخفى به الشوارع المزدحمة حول المبنى. ويتبنى «جوايار» الخشب كمادة لبناء تصاميمه الجديدة. 

■ كنيسة ساجرادا فاميليا في برشلونة

وعلى كل حال فالعالم مقبل على تغييرات جذرية تتعلق بكل ما نعرفه عن النظم والأنشطة الاقتصادية، وعلاقات العمل، ووسائل الموصلات، والاتصالات، ومصادر الطاقة، ولا يمكن التنبؤ حتى الآن بما سيصير عليه خلال عقدين من الآن، وما يمكن أن يكون عليه مستقبل العمران البشري، وفنون تصميم الإنشاءات والأبنية.