خواطر الإمام الشعراوي .. ساعة قضى الأمر

الإمام الشعراوي
الإمام الشعراوي

يواصل الشيخ الشعراوى خواطره حول الآية 210: «هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِى ظُلَلٍ مِّنَ الغمام وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» قائلا: «هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله» يعنى بما لم يكن فى حسبانهم.

هل ينتظرون حتى يروا ذلك الكون المنسق البديع قد اندثر، والكون كله تبعثر، والشمس كورت والنجوم انكدرت، وكل شيء فى الوجود تغير، وبعد ذلك يفاجأون بأنهم أمام ربهم. فماذا ينتظرون؟. إذن يجب أن ينتهزوا الفرصة قبل أن يأتى ذلك الأمر، وقبل أن تفلت الفرصة من أيديهم ويُنهى أمد رجوعهم إلى الله. لماذا يسوفون فى أن يدخلوا فى السلم كافة؟ ما الذى ينتظرونه؟ أينتظرون أن يتغير الله؟ أو أن يتغير منهج الله؟ إن ذلك لن يحدث. ونؤكد مرة أخرى أننا عندما نسمع شيئاً يتعلق بالحق فيما يكون مثله فى البشر فلنأخذه فى إطار « لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ». فكما أنك آمنت بأن لله ذاتاً لا كالذوات، فيجب أن تعلم أن لله صفات ليست كالصفات، وأن لله أفعالاً ليست كالأفعال، فلا تجعل ذات الله مخالفة لذوات الناس؛ ثم تأتى فى الصفات التى قال الله فيها عن نفسه وتجعلها مثل صفات الناس، فإذا كان الله يجيء؛ فلا تتصور مجيئه أنه سيترك مكاناً إلى مكان، فهو سبحانه يكون فى مكان بما لا يخلو عنه مكان، تلك هى العظمة. فإذا قيل: « إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله» فلا تظن أن إتيانه كإتيانك، لأن ذاته ليست كذاتك، ولأن الناس فى اختلاف درجاتهم تختلف أفعالهم، فإذا كان الناس يختلفون فى الأفعال باختلاف منازلهم، وفى الصفات باختلاف منازلهم، فالحق منزه عن كل شيء وكل تصور، ولنأخذ كل شيء يتعلق به فى إطار «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ»؛ ففعْل ربك يختلف عن فعلك. وإياك أن تُخضع فعله لقانون فعلك؛ لأن فعلك يحتاج إلى علاج وإلى زمن يختلف باختلاف طاقتك وباختلاف قدرتك، والله لا يفعل الأشياء بعلاج بحيث تأخذ منه زمناً ولكنه يقول: « كُنْ فَيَكُونُ». كأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا صورة عن الإنجاز الذى لا دخل لاختيار البشر فى أن يخالفوا فيه فيقول: ساعة يجيء الأمر انخلعت كل قدرة لمخلوق عن ذلك الأمر وأصبح الأمر لله وحده. و»فِى ظُلَلٍ مِّنَ الغمام». فيه شيء يظللك وفيه شيء تستظل به، والشيء الذى يظللك لا يكون لك ولاية عليه فى أن يظللك إلاّ أن ترى أين ظله وتذهب إليه، وشيء آخر تستطيع أنت التصرف فيه كالمظلة تفتحها فى أى مكان تريد. وكلمة (ظلل) معناها أنها تستر عنك مصدر الضوء؛ ولذلك حينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يصور لنا ذلك قال: «وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل دَعَوُاْ الله» «لقمان: 32». أى جاءهم الفزع الأكبر كالظلة محيطاً بهم، فكأن الله يريد أن يخبرنا أن الكون سيندثر كله وسيأتيك الأمر المفزع، الأمر المفجع، والمؤمن كان يتوقعه، وسيدخل عليه برداً وسلاماً؛ لأنه ما آمن من أجله، لكن الكافر سيصاب بالفزع الأكبر؛ لأنه فوجئ بشيء لم يكن فى حسابه. وقارن بين مجيء الأمر لمن يؤمله، وبين مجيء الأمر لمن لا يؤمله. إن الحق سبحانه وتعالى قال: ساعة تجيء هذه الظلل والملائكة فقد قضى الأمر. وعندما تسمع «قُضِيَ الأمر» فاعلم أن المراد أن الفرصة أفلتت من أيدى الناس، فمن لم يرجع إلى ربه قبل الآن فليست له فرصة أن يرجع. ومثال ذلك ما قاله الحق فى قصة نوح: «وَقُضِيَ الأمر واستوت عَلَى الجودي» [هود: 44]. أى انتهى كل شيء، ولم يعد للناس قدرة على أن يرجعوا عما كانوا فيه. فالله يقول: ماذا تنتظرون؟ هل تنتظرون حتى يأتيكم هذا اليوم؟ لابد أن تنتهزوا الفرصة لترجعوا إلى ربكم قبل أن تفلت منكم فرصة العودة. «وَإِلَى الله تَرْجَعُ الأمور»، ومرة تأتى «وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور». وفيه فرق بين (تَرجع الأمور) بفتح التاء وبين (تُرجع الأمور) بضم التاء. فكأن الأمور مندفعة بذاتها، ومرة تساق إلى الله. إن الراغب سيرجع إلى ربه بنفسه؛ لأنه ذاهب إلى الخير الذى ينتظره، أما غير الراغب والذى كان لا يرجو لقاء ربه فَسَيُرجَع بالرغم عنه، تأتى قوة أخرى تُرجعه، فمن لم يجيء رغَباً يأتى رهَباً.