كنوز| نغمات سبتمبرية فى مئوية سيد درويش الأغنية

سيد درويش الأغنية
سيد درويش الأغنية

تحتفى مصر الثلاثاء القادم بمئوية رمز من رموزها الشامخة فى عالم الغناء والموسيقى ، إنه موسيقار الشعب خالد الذكر سيد درويش الذى لا تكفه المقالات لتبيان قيمته وقامته وعبقريته التى طور بها الموسيقى فى نقلة نوعية تحسب له، والكلام عنه وعن مآثره يبدأ لكنه لا ينتهي، وأود ونحن نحتفل بمئويته أن أفتش عن المرأة التى ألهبت خياله، وفجرت انفعالاته الإنسانية والعاطفية، فلحن ما لحن، وأعتقد ان «جليلة» لعبت دورا محوريا فى حياته لايمكن اغفاله إذا ما اردنا أن نصل للمحرك الذى فجر غزارة انتاجه المشحون بدرامية العلاقة مع ملهمته التى ساهمت بشكل أساسى فى خلق مفردات الألم التى فجرت بداخله بركان الصد والرد، القرب والبعد، الهجر والود، العناد واللين، التمرد والخضوع، التماسك والانكسار، الشكوى والحنين، النشوة والأنين، العزة والمذلة، القوة والتحدى وقهر المستحيل. 

كل الكتابات التى تناولت خالد الذكر تغاضت عن شرح وتحليل وتفكيك الأثر النفسى والعاطفى الذى حركت به جليلة قريحة موسيقار القرن العشرين، وموسيقار القرون القادمة بلا منازع !!

لولا جليلة ما كنا سمعنا فى ألحان سيد درويش المناجاة والشكوى، والهجر واللوعة، والحنين والقسوة ، الشوق واللهفة ، لقاء الشيخ سيد بجليلة كان أشبه بلقاء حبات المطر بالأرض الجافة ، كان يغنى لقوم فى ملاه وبارات ومقاهٍ لا يسمع فيها الناس إلا ما يدورفى داخلهم ، فكان كمن يغنى مضطرا من أجل قروش قليلة ، لكنه شاهدها ذات ليلة ، وهو فى ذروة ضيقه من هؤلاء السميعة ، كانت تجلس بين الناس وكأنها ليست منهم ، منفصلة تماما عنهم ، كأنه يغنى لها بمفردها ، ترسل له بإشارات تعنى الاستحسان ، وتعنى أنها ذواقة للحن والنغمة والكلمة ، فرد تحيتها بأحسن منها و أرتجل كلمات لحنها فى التو واللحظة ، قال فيها «حلوة البنية يا بطتها ..خفة ودلوعة يا حلاوتها ..لما رأيت حسن جمالها..زادت فى قلبى محبتها « .

يا لجليلة التى كانت تتمتع بجمال صارخ وخبرة فى صيد من تهواه ، وفى تقديرى الشخصى لم يقع الشيخ فى غرامها من أول نظرة ،أعجبه تذوقها لنغماته ، بعكس السميعة اللاهين عنه وعن فنه ، جليلة كانت أول من أوقدت الشموع التى أضاءت له طريق النبوغ ، فظل يلحن ويلحن ويغنى طمعا فى مزيد من التقدير الذى تحول إلى إعجاب ، ثم لقاء ، وتعددت اللقاءات ، والشيخ يسبح فى بحر الابداع والحب ، جليلة تأكدت أن الصيد أصبح فى شباكها ، وأصبح كما الخاتم فى إصبعها ، ويبدو أن حساباتها كانت خاطئة ولم  تفهم طبيعة سيد درويش المتمرد الذى لا يقبل قيدا أو شرط ، فبدأت تلاعبه بالصد والرد، تتركه ، يتركها ، كلاهما يبحث عن الآخر، يغترفان من بحر الحب ثم يختلفان ، فهو بالنسبة لها رجل تريد ترويضه ، وهى بالنسبة له ملهمة تشحن طاقته الإبداعية وتحرك فيه خياله.

أتهمته أسرته بأنه غرق فى حبها ، قالوا انه بالنسبة لها واحد من عشرات عرفتهم ، سوف تستنزفه وتبحث عن صيد آخر، لم يهتز الشيخ لما يسمع لأنه لم يكن قد غرق لشوشته فى الحب الذى يتحدثون عنه، قال لهم أن ما بينهما مجرد تقدير منه وتقدير منها، نقلوا إليها ما قال فهجرته لتختبر عواطفه، أحس لأول مرة بمرارة الهجر ولوعة الشوق، فتحركت قريحته بأغنية يقول فيها «تهمونى فى حبك تهمونى ..الله يجازيهم ظلموني» ، فى هذا اللحن أفصح الشيخ عن الإعجاب الذى تحول إلى حب لا يقوى على الهجر والفراق، وأيقنت جليلة بخبرتها أنها تمكنت من مشاعره ، فأخذت تستزيد السيطرة بخبرة الراغبة المتمنعة ، ترخى حبال الود مرة ، وتلعب على حبال الصد مرة ، فى داخل الشيخ سيد صراع محتدم بين العقل والعاطفة ، يريدها ملهمة أكثر منها امرأة تلاعبه بالغريزة ، فأخذ يحذر نفسه بلحن «يا فؤادى ليه بتعشق ..الحبيب قاسى على .. قلبه ظالم لم بيشفق .. وأنا صابرع الآسيه»، وخاطبها بلحن «عشقت حسنك وأنت ليه حرقت قلبى بنار الجوي». 

ظنت جليلة ان الشيخ سيد لم يعد قادرا على الفكاك من أسرها ، لم تدرك انه ليس بالمحب المتذلل، اتعبه كلام الناس ومنه كلام أسرته التى أحست بمهانة من أرتباطه بواحدة تلوك الألسنة سمعتها ، شقيقته أصبحت مهددة بالطلاق، وشقيقته الأخرى مهددة بفسخ الخطبة ، فرضت العائلة شروطها على الشيخ بقطع علاقته بها والابتعاد عن الوسط الفنى المتدنى من وجهة نظرهم، وقبل الشيخ شروطهم وانتقل للعمل مع زوج شقيقته فى النجارة ، وعمل بعدها فى محل للعطارة ، وانتقل للعمل مع طائفة المعمار، ظل يتنقل من عمل إلى عمل ، وجليلة تبحث عنه  فى كل مكان ، فإذا وجدته ينصرف عنها ، لكن الشيخ سيد تعب من الكر والفر، والالتزام بالعهد الذى قطعه لأسرته ، أدرك بروح الفنان أنه خلق للموسيقى وأيقن أن جليلة قدره الذى لا فكاك منه ، فأمسك بالعود ولحن « فى شرع مين قاضى الهوي.. يذله خصمه ويحكمه»، ويرسل لها بلحن آخر يقول فيه «تركت أهلى وملت لك .. وأمتى وصالك ياقمر». 

عاد سيد درويش يطلب الوصال الذى كانت تنتظره جليلة لكى تبقيه فى عشها ، فأخذت تتفنن فى الإثارة والمراوغة التى جعلته يغنى «يا للى قوامك يعجبنى .. ليه بس ترضى لى صدودك»، ثم يرفع شكواه قائلا «أروح لمين أشكى حبيبى .. والدهر والعذال حكام»، لم تفهم جليلة شخصية سيد، استعذبت آلامه التى فجرت ألحانا خالدة، أشعلت فى قلبه نار الغيرة، فبدأت الشكوك تساوره، استرجع ماضيها ، ظل عقله يصارع عاطفته ، هل يقبل أن تعذبه امرأة مهما كان حبه لها ، قرر أن يؤدبها بفنه ليجعلها تدرك من هو سيد درويش الذى لا يحنى رأسه أبدا ، فغنى «ما تطلعيش فيها يا هانم .. دى كلها يومين وتعدي» ، وردت جليلة التحية بعلاقة مع اشهر جواهرجى بالاسكندرية ، أيقن الشيخ سيد أنها تتعمد كسر كرامته وإهانة رجولته ، فصاغ لحنا فضح فيه الجواهرجى وجليلة معا ، قال فيه « فى الصاغة الصغيرة .. شوف سوق العجايب والعجب «، أحست جليلة بالهزيمة فقطعت علاقتها بالجواهرجى وبدأت تزحف كما الحية لتعلن توبتها لكن الشيخ سيد أصبح لا يأمن لها فصدها بأغنية تهكمية يقول فيها «أطلع من دول أنا مش منهم .. يا لا أسرح دور على غيري» !

اصبح لدى جليلة يقين بأن سيد لن يعود إليها مهما فعلت ، وتأكد لها ذلك عندما سافر للقاهرة بحثا عن المجد الذى ينتظره ، لكن شبحها ظل يطارده ، بدأ يدرك انها هى التى فجرت طاقاته الابداعية لكنه لم ينس لها الخيانة فغنى « ضيعت مستقبل حياتى فى هواك.. وأزداد على اللوم وكتر البغددة « ، قرر الخلاص مما يجيش فى داخله برائعة « أنا هويت وانتهيت وليه بقى لوم العزول» ، لمَ لا ينساها بحب آخر؟، فغنى لها « بلاش تغير لما تشوفنى مع سواك» ، وزاد عندما لحن « قلبى ما عدش يرق بعد اللى حصل ..غيرك هويت قوام نسيت حبك ياريت « !

أنشغل الشيخ سيد بروائع اعماله التى أبدعها للفرق المسرحية ، ورحلاته الفنية التى قام بها لبلاد الشام ، وأحب وتزوج وأنجب وأصبح أسمه وألحانه على كل لسان فى مصر والبلاد العربية، واعتقد انه لم يتخلص نهائيا من شبح جليلة الملهم الذى يطارده  أينما كان ، وعبر عنه فى لحنه الرائع الذى يقول فيه «يوم تركت الحب كان لى فى مجال الأنس جانب .. ورأيت المجد عاد لى بعد ما كان عنى غايب». 

على أى حال.. مهما كانت مشاعر سيد درويش التى صاغها القدر الذى جمعه بجليلة وفرق بينهما ، فمن الإنصاف أن نقول أن هذا القدر أوجد جليلة فى حياة سيد درويش ، لكى تعذبه مرة بالصد ومرة بالهجر، ومرة بالغيرة ومرة بالقرب ، ومرة باللوعة ومرة بالحيرة ، قدر محسوب لتفجير عبقرية فنان قلما يجود الزمان بمثله .

سادد ودانك ليه يا سيد يا ابو الدراويش. 
ليه مخلينا مضحكة للى يساوى واللى ما يساويش. 
ما تقوم تقول للى بيغنوا المغنى ما هوش تهويش. 
ومهما حوشتوا انهارده بكره ح يضيع التحويش. 
بيكار