آخر صفحة

حامد عزالدين يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم

حامد عزالدين
حامد عزالدين

سألت نفسي وأنا أقرأ البسملة: ما هو الذى «باسم الله الرحمن الرحيم». ذلك أن البسملة كلها هى عبارة عن شبه جملة غير معروف مبتدؤها. وللتبسيط أنا أقول مثلا «فى البيت ضيوف»، ويكون إعرابها هو: فى البيت جار ومجرور شبه جملة خبر مقدم، وضيوف هى المبتدأ المؤخر.

دعونا نضع نموذجا آخر مشابها «على المقعد المقابل صديق»، وسيكون إعرابها هو ذاته: على المقعد جار ومجرور شبه جملة فى محل خبر مقدم، والمقابل صفة مجرورة بالكسرة، وصديق مبتدأ مؤخر مرفوع. فماذا عن «بسم الله الرحمن الرحيم» باسم جار ومجرور شبه جملة خبر مقدم، والله لفظ الجلالة مضاف إليه، والرحمن صفة مجرورة، والرحيم صفة ثانية مجرورة.. أين المبتدأ فى الجملة؟. 

وهنا نكتشف عظمة لغة القرآن الكريم فى ترك المبتدأ مفتوحا. وكأن الله تعالى منحنا فرصة ألا نحدد المبتدأ، ليكون ممكنا أن يكون هو الأمر الذى يحقق لنا الأفضل حتى لو كنا نعرفه أصلا. فقد لا يعرف أحدهم أيها هو الخير وهو يدعو الله باسم ذاته العلية «باسم الله» وهو يشرب الماء أو وهو فى الطريق إلى مكان عمل أو وهو فى الطريق إلى غرفة العمليات الجراحية لإجراء جراحة، فيحدد المولى سبحانه المبتدأ المؤخر الذى يحقق له الأفضل، وفقا للترتيب القدرى. إذن هى دعوة عظيمة يحقق بها الله مراد الخير للإنسان بمجرد أن يقول بينه وبين نفسه «بسم الله الرحمن الرحيم». ثم إنه سبحانه اختار صفتين من أعظم صفاته لاستكمال الرجاء بالخير. 

لكن لماذا تسبق صفة الرحمن صفة الرحيم فى البسملة؟ الرحمن على وزن فعلان يقال لها إنها طلاقة القدرة فى تحقيق المعنى، وهو هنا الرحمة، وقد وردت فى القرآن الكريم ثمانى وأربعين مرة. والله رحمن بالأرض حيث خلق فيها ما يبقيها حية تنتج ثمارا من تكوين تربتها، ومن الهواء بما يحويه من بخار الماء الذى يتحول إلى ذرات ماء تمنح الأرض القدرة على الإنبات، ولولا ذلك لتجلدت الأرض ولم تعد صالحة لأداء المهمة التى خُلقت من أجلها، والله رحمن بالنبات والزرع بأن وفر له الأرض وما فى داخلها من عناصر وما فوقها، والله سبحانه رحمن بالحيوان بأن وفر له النبات والزرع الذى لولاه ما عاش أى جنين، والمولى سبحانه رحمن بالإنسان بأن وفر له الأرض وما فيها وما فوقها والزرع والنبات والحيوانات بأنواعها ليضمن له سبل الحياة. 

ومن هنا نستطيع أن نقول إن الله رحمن على الأرض، فيما هو رحيم بعباده أى بالإنسان، الذى هو جزء من خلقه فحسب. وصفة الرحيم على وزن فعيل، حيث تكون الصفة جزءا من الموصوف جل وعلا. لكن الوزن فعيل أقل فى القدرة من «فعلان، رحمن»، وانظر إلى ذلك المعنى فى الآية 59 من سورة الفرقان «الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا».  
وقد ورد ت صفة «الرحيم» فى القرآن 34 مرة، كلها مفعولها الإنسان، والرحمة فيها ترتبط بربوبية الخالق لهؤلاء التوابين من عباده. ولا تتعلق بكل الكون بعناصره المختلفة، حتى أن الآية «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» وردت بنفس الصيغة فى القرآن ثمانى مرات فى 8 سور مختلفة فى تأكيد لا يقبل الشك على أن رحمة الله «الرحيم» ترتبط بالإنسان الذى خلقة المولى من تراب من طين ثم نفخ فيه من روحه. إذن فقد كان ترتيب الرحمن بالأرض وكل ما عليها لا بد أن يسبق - منطقيا - وصف «الرحيم» بعباده. 

وكما ورد في سورة الصافات:  سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿ 180 ﴾ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ﴿ 181 ﴾ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿ 182 ﴾. 

الإعجاز في لغة القرآن الكريم، لا ينتهي.  وإلى الأسبوع المقبل إن شاء الله لو كان فى العمر بقية.