«رائحة» قصة قصيرة للكاتبة آيار عبد الكريم

قصة قصيرة للكاتبة آيار عبد الكريم
قصة قصيرة للكاتبة آيار عبد الكريم

أضواء ساطعة، زغاريد مُدوَيّة، كوشة عروس مُزيّنة جميلة على مسرح صغيرٍأمام البيت. تجلس العروس على أريكة بفستانها الأحمر النّاريّ الجذّاب، ينعكس لونه على نفوس الحاضرين؛ فيملؤها سعادةً وانطلاقاً وحيويّةً كشعلة اللقاء الأول والحب الأول. يغطي  جسدها مع بروز عظام الترقوة والعنق والكتف - لمسة الجمال- نسبةً إلى كلّ امرأة. 

 

إلى يمين العروس، تجلس الأمُّ ومعها "دفتر" صغير، تُدّون فيه هديّة بقيمة ماليّةٍ للعروس" النُّقْطَة"، كما كان أهل هذه القريّة الصغيرة يُطلقون عليها، وكأنه دين تُدوّنه حتى تقوم بسداده فيما بعد. هكذا جرت العادة دائماً.

وإلى اليسار، تجلس تلك  السيّدة، التي تدقّ على وتر الطّبلة المشدود بيديها بكل قوةٍ  وهي تغني قائلةً: أوعى له يا بت، خلاكِ واحدة ست

اوعى لها ياواد اوعى لها، ده العمدة يبقى خالها.

ارمي شالك عليا، يا عريس أنا بحبك وأمك في عينيا.

 

طفلة صغيرة، تستمع إلى تلك الأغنيات المُتوارثة للمرة الأولى في حياتها. تشاهد تفاصيل حنة غريبة الأطوار، لم تعهدها من قبل.

 

  وحولها أطفال يُصفّقون ويُهلّلون؛ تصفّق مثلهم وهي تنظر إلى العروس الجميلة السّاحرة، تشبه أميرات الحواديت؛ بوجهها الجميل المُشرق كالبدر في ليلة التّمام؛ الشّفاه مرسومة بدقة بأحمر الشّفاه الجذّاب ، العين الكحيلتين النّجلاوين ، الأنف المنحوتة ، وكأنها بيد نحاتٍ بارع.

 

 ليست طقوسها هي الطور الغريب بمفرده؛ فالاسم ذاته غريب المعالم، أهل القرية يطلقون عليها لفظةً عجيبةً مثل طقوسها "التّسْريرَة"؛  يا لهم من أُناس ماهرون؛ فرغم بساطتهم إلا أنهم يتلاعبون بمفردات اللغة العربية ببراعة وجدارة لم يسبق لها مثيل، مثلما يتلاعبون بتلك الطقوس المُبهجة، فهي لفظة مُشتقّة من الفعل" سرّ" أي " فَرِح"، والفرح هو السّرور والسّعادة . فالزّينة، الكوشة، الفستان؛ كلها علامات ودلائل الاحتفال بليلة الحنّة- ليلة ما قبل الزفاف- أو الفرح، وكأنهم يرجون من اسمها السعادة الزوجية المُطلقة لهؤلاء الفتيات.

 

 سبع سنوات- تشاهدُ وتلمِسُ كلَّ هذه التفاصيل الدّقيقة، بل وتركّز في نظرات الرّجال والنّساء للعروس، ولربّما كانت  نظراتُ الرجالِ هي الأكثر دهشةً لها  بين تلك النظرات جمعاء.

كانت نظراتٍ ثاقبةٍ؛ وكأنّها سهامٌ أو طلقاتٌ تعرفُ هدفها بكلّ دقةٍ. ينظرون إلى جسد العروس بكلّ تفاصيله من عنقٍ، ثديٍ، وجهٍ مُزيّن جميلٍ . تتغزّل أعينهم في جسدها الجميل بكل أريحيّة  وكأنها "مانيكان" أو "عارضة أزياء جميلة" .

مع البوح أيضاً بعباراتٍ، تنمّ عن الحظ السّعيد لذلك العريس، وطقوس اللّيلة الحمراء التي سيفوز بها بكل تفاصيلها.

في اليوم التالي، تأتي ليلة زفاف "ابنة عمها"، . ترتدي فستاناً جميلاً وتظلّ مُلاصقةً ومُصَاحبَةً

لها طوال الزّفاف. فتارةً تجلس على إحدى جوانب المسرح، وتارة تقف بجانبها وهي تجلس بجوار عريسها على الكوشة الجميلة.

دائما لا تتركُ أيّ عروسٍ، حتى ينتهي الزفاف وتذهبُ العروس إلى منزل الزوجيّة ، ولكنها لم تتركُ- ابنة عمها-  لتذهب بمفردها مع عريسها  إلى منزل الزوجيّة في ليلة زفافها هذه.

 

ظلت تبكي وتبكي وتتشبثُ بيديها وفستانها الأبيض حتى لا تتركها. فتحاول عماتها أن يجتذبنْ يديها بقوّةٍ كي تترك العروس ولكن – لا حياة لمن تنادي- ظلت يداها متشبثتين بها، وكأنها تخاف عليها من مصير محتوم .

 

أشفقتْ عليها ابنة العم، أو لربما كانت تحاول هي الأخرى أن تهرب من هذا المصير المحتوم. ربما كانت خائفة منه، فغالباً ما ستواجه عادة أغلب القرى المصريّة آنذاك.

 

كان تشبّثُ العروس بها، هو محاولةٌ منها أيضاً لتأخير هذا المصير المحتوم، وبالفعل، ذهبتْ مع – ابنة العم - إلى "عُشّ الزّوجيّة". غرفةُ نوم جميلة ساحرة، لها رائحةٌ ذكيّةٌ، يستنشقُ عبقها وعبير رائحتها كل من يدخل إليها؛ مُعطّرَة ومُلوّنَة ومُجهّزة لاستقبال العروسين وكأنّها روائح  زهور جميلة، رائحة ما زالتْ حتى اليوم تشمها عند زيارة أي عروسين. وأخيراً تركتْ ابنة العم، لكنّها لمستْ خوفها وقلقها من اللحظة المصيريّة لها، لحظة "ليلة الدّخلة" التي كانت تخشاها جميع فتيات القرية آنذاك.

 

وبعد أيّامٍ، تذهب صباحاً إلى غرفة ابنة العم، تضع لها أحمر الشّفاه كالمعتاد؛ فتُلاحظ أنّ خوفَها قد تبدّل تماماً، حتى رائحة الغرفة تبدلت من مُجرّد رائحة عطريّة نفّاذة إلا رائحة مُبهمة بعض الشيء؛ وكأن خلايا وجزيئات الرائحة مُمتزجَة بالشبق، القبلات والأحضان، كأنّ روائحَ الجسد تتناثر في كل زوايا الغرفة، أثناء اللّقاء المُمتع للعروسين.

 

دائما تشمّ هذه الرائحة عند دخولها غرفة العروسين، ربما الأخريات هنّ من ينفردنْ بهذه الخاصيّة المُميّزة، أو ربما لديها قرون استشعارٍ خاصة بها؛ تُمكّنها من تفسير وإدراك هذه الروائح الحيّة – روائح التحام الأجساد والأرواح، وما يُثمرُ عنها من طاقةٍ إيجابيّةٍ تدّب بين جميع أركان الغرفة.

 

تمرّ أعوام الدراسة، والتخرّج. ويأتي يوم "الحنّة" علّق أبواها الزينة على باب المنزل كلّه واحتفلت بهذه اللّيلة بحفلةٍ صغيرة مع بنات عائلتها وصديقاتها المقرّبات.

 

ارتديتْ فستاناً أصفراً جميلاً، يُبرز مفاتنَ جسدها كالعنق، الكتف واليدين، على عكس الأحمر الناريّ الذي كانت ترتديه عروس القرية. لكن مع دخول أصدقاء أبيها وأقاربها الذكور. وجدتْ ذاتها تهرولُ مسرعةً إلى غرفتها كي تضعَ شالاً يُواري معالم جسدها. لم تتذكّر في هذه اللحظة سوى تلك النّظرات الثّاقبة التي لمستْها منذ طفولتها للعروس.

لم تهتمّ بتغطية شعرها قدر أكتراثها آنذاك بتغطية جسدها، وتمّت العملية بنجاح حتى تبتعد العيون عن جسدها. وعندما جاءت ليلة زفافها وانتهى الحفل. ذهبت إلى عُشّ الزّوجيّة؛ ومع دخول غرفتها للوهلة الأولى، لم تستشعر روائح غرفة - ابنة عمها كطفولتها، ربما الأشخاص الآخرين هم من يمتلكون هذه الميزة  السحريّة- ميزة تفسير الروائح الحيّة .

مع دخول ابنتها، غرفتها أحياناً، تُذكّرها بذاتها عندما كانت طفلةً صغيرة. تستشعر هذه الرائحة المُتميّزة، والمُنفردَة بذاتها .

فتجزمُ لها، أنّ رائحةَ غرفة نومها مختلفة عن رائحة غرفتِها وأخيها. تضحك وتتجاهل الموقف بدعابةٍ ومزحٍ، لكن تتهافت عليها في هذه اللحظة – رائحة غرفة ابنة العم.

ومازالت تلك الرائحة عالقة بأنفها!!!.