«إلى أين؟».. قصة قصيرة للكاتب محمد كمال سالم

الكاتب محمد كمال سالم
الكاتب محمد كمال سالم

ماهذا اليوم؟!! تبًا لوكيلِ.. وزارتِنا !! لا يدري شيئا، مالي أنا وتوجُّه الدولة بعام المرأة؟! وأين يمكنني أن اكتشف له تلك النماذج المميزة؟! لا يدري بحالنا، وكيف نكافحُ من أجل لقمةِ العيش .

لم يسعفني الوقت للراحة قبل نزولي لعملي الإضافي مساءً .

توكلت علي الله، اللهم ارزقني براكبين بأجرةٍ جيدة، لأعود مبكرا لعلي أحظى بقدر كاف من الراحة.

ها هي امرأةٌ تلوُّح لي؛ سأركن لها ( يا مسهل)، أعتقد إنها جارتنا بنفس العمارة، نعم، إني أعرفها.

- إلي أين يا سيدتي؟!

احنت رأسها لتراني، وقالت: ارفع عني تلك الحقائب أولاً، خرجتُ لها، هذه حقيبةٌ كبيرة تجرها، وأخري بيدها عريضة مفلطحة تشبه ما يضع فيها المهندسون لوحاتهم، وضعتهما علي المقعد الخلفي واستقرت هي بجوارهما.

ثم انطلقتُ بها، لمحتُها بمرآتي الأمامية، لاحظت من طريقة ارتدائِها معطفِها ، وغطاء رأسها إنها قد ارتدتهما علي عجل، ويبدو لتوترها أنها لم تنتبه أننا جيران.. سألتها: إلي أين الآن يا سيدتي؟

أخرجَت منديلًا من حقيبة يدها، تستبق به دموعَها قبل أن تسقط ثم قالت:

سأجري محادثةً تليفونيةً وأخبرك.

* آلو..كيف حالك شقيقتي،أين أنتِ؟......نعم أنا بحال جيدة.. إذًا لستِ بالبيت.. سهرة سعيدة إذًا.. لاااا، كنت اطمأن وحسب.

سلام.

علمتُ بفطنتي أنها لا تدري إلي أين تذهب، فآثرت أن أسألها مجددا عن وجهتِها، وسرت علي غير هدى، وتعمدت أن أسلك طريقَ الكورنيش ، لعل نسيمه يهدئ توترها، نظرت إلي في المرآة وقالت: (علي جنب هنا يا أسطى)

قلت: حضرتك متأكدة أنك تريدين النزول هنا؟!

قالت: نعم.

نزلت كي أناولها حقائبها، وأنا علي يقين أنها في محنة شديدة، لكني غير قادر على أن أفعل لها شيئا كي لا أقتحمَ خصوصيتها، ولكني أبَيت أن أتركها في حيرتها، حاولت أن أجد مخرجًا، فقلت لها:

- سيدتي! أنا أعرفك، وأعرف زوجك وأسرتك، أنا جاركم في نفس العمارة.

*عفوًا، أعتذر، فليس لي خلطة بأحد، في أي دورٍ شقتِك؟

- الشقة التي تعلو شقةَ حضرتك

* إذن،أنت زوج مدام فاطمة؟

- نعم، أنا أشرف فاروق، مدير بوزارة الثقافة ثم أضفت مترددًا:

هل تسمحين أن أعزمك علي كوبٍ من هذا؟ وأشرت لبائع حمص الشام علي قيد خطوات.

ابتسمتْ خجلة وقالت: لا مانع.

أعدت الحقائب مرةً أخري للسيارة، وأجلستها علي السور الحجريّ الأبيض للكورنيش.

،قلت لها وأنا أناولها كوبها الساخن: لا أريد أن أقتحم خصوصيتك ولكن يبدو.....،قاطعتني قائلة:

خرجت من البيت غاضبةً، أقسمت ألا أعودَ تلك المرة، رغم أني لا أعرف إلي أين!! نظرت إليّ في خجل وتوتر، ابتسمت لها في ود أحفزها على مواصلة الكلام.

*تتنازل ثم تتنازل، حتي لا تستطيع التوقف أبدًا، ولن يقبل من أرخيت لهم جناحك طواعية، أن تتوقف لتأخذ قسطا من الراحة أو تنطلق لتقتنص حلما وحيدا ! ثم أردفت : قالت لي عمتي يوم أن رأته للمرة الأولى: لا يليق بكِ ،أخشى عليكِ منه!! احذريه.

كنت علي غير معرفة بالناس، كان أبي يرتحل من بلد إلي بلد بحكم عمله كمهندس زراعي، لا خبرة لي بالناس لا علاقات، كلما حصلت علي أصدقاء في مدرستي، لا ألبث أن أودعهم، وابدأ من جديد، في بلد جديد، لم تحتمل أمي الأجنبية الوحيدة هنا ذلك الترحال المتصل، وماتت ونحن بالواحات البحرية، يوم أن وضعتْ أختي الصغرى، التي كانت حريصة أن تنجبها، حتي لا تدعني في الدنيا وحيدة.

قاطعتُها مُداعبا: أنا أيضًا قلت تلك العينان الزرقاوان والوجه المرمري، ليست بضاعة محلية، هي مستوردة أكيد، وضَحكتُ، فشاركتني بابتسامة مبتورة.

واستطردت: وجدتني مسئولة مبكرًا عن أبي، عن أختي الصغرى، دللتها حتى أفسدتها علي نفسي، أصبحت لا أراها إلا إن احتاجت هي إليّ!! ليست وحدها، كلما نظرت إلي زوجي، تذكرت كلمات عمتي عنه، حتى هوايتي التي دعمتها بدراستي وثابرتُ عليها رغمَ الصعاب، لم احرز فيها إلا صفرا كبيرا.

انهمر سيل دموعها فجأة من عينيها، لم تستطع أن تستبقه تلك المرة بمنديلها ،ثم قامت مندفعةً وقالت: أعتذر بشدة، عطلتك، ولا ذنب لك، هيا بنا.

وفي السيارة،،

قلت: هل حزمتِ أمرك ووجهتك سيدتي؟

قالت: ألقاك القدر في طريقي، ليخبرني: أنه لا يجب أن نبالغ في الحذر من جيراننا،

لقد قاربت ابنتي أمل أن تضع مولودها الأول وابني أحمد على مشارف امتحان الثانوية العامة

أظنني لن أبر بقسمي.

وأمام البيت، ناولتها حقائبها، فتركت لي تلك الحقيبة العريضة قائلةً: اسدُ لي معروفًا أخيرًا، وتخلص لي من ذلك الصفر الكبير، وانصرفت عائدة لبيتها.

وفي بيتي، فتحت الحقيبة، وجدت لوحات رُسمت بمهارة وعبقرية!

كانت أحدثهم لامرأة تشبهها، تجُر ساقية وهي تكابد ثقلها،

كانت ألوانها قاتمة، ومازالت رطبة.