سامح وهيب يكتب : نعمات البحيرى شجرة طيبة تنمو فى «تربة نفتالين»

نعمات البحيرى
نعمات البحيرى

تمر فى 17 أكتوبر المقبل الذكرى الـ15 على وفاة الأديبة نعمات البحيرى، حيث رحلت عن عالمنا فى عام 2008. وهذا المقال محاولة لاستعادتها إنسانة وكاتبة. 

تقول نعمات البحيرى: «كآبة الروح يدفع عنها الجسد الفواتير كاملة». وتقول أيضاً: «مفهومى للكتابة النسائية، ولو أننى أرفض هذا المصطلح، أنها كتابة المرأة من حيث موقعها الاجتماعى والتاريخى فى المجتمع غير منزوع من رؤيتها للعالم ككل.. فكتابتى ليست كتابات ذات امرأة مغلقة على نفسها لكنها امرأة وسط العالم فى قلب التاريخ والجغرافيا».


نعمات لم تفقد سخريتها ولا اقتصرت كتابتها على حكاية تجربتها مع السرطان، إنما حدثتنا عن الواقع المؤلم والحياة، عن طفولتها ونشأتها وأسرتها، عن الأب مزدوج الوعى الذى لا يستقبل الرجال فى بيته للحفاظ على نسائه بينما هو لم يترك واحدة دخلت البيت إلا وتحرش بها، والأم التى تتغافل عن كل هذا لكى تثبت أنها قادرة على أن تكون زوجة صالحة خاصة أن هذه هى زيجتها الثانية، والأخ.. وهو توليفة عجيبة من البشر فى تلك المرحلة، تشدد دينى مع براجماتية شديدة فيما يتعلق بالبيزنس وحتى العاطفة والزواج، ثم هى لا تنسى نعمات التى كافحت القهر والحصار بالتعليم والقراءة والكتابة وقرار العيش منفصلة عن تلك العائلة وزواجها من العربى الذى أحبته، زواج هدمه الواقع بعد زوال بريق البدايات، وخنقه العيش فى مجتمع أكثر مرضاً من مجتمعنا المصرى، وبرغم مرور 18 سنة بين زمن الحدث وزمن القص إلا أن أصدقاءها وأمها لا يزالون يرون أنه حبها الباقى وأنها لا بد أن تتتبَّع أخباره وتعرف عنه شيئاً، وهى ترد أحياناً أنه بخير لأنها وإن كانت لا تعرف عنه شيئاً إلا أنه لو كان يوجد ما يسوء لكانت عرفته.


عند الكاتب المهموم بمجتمعه صعب أن تقتصر كتابته على السيرة الذاتية الصرفة حتى لو بدأ كتابته بهذه النية، فهو طوال الوقت يملك وعياً مشغولاً بما حوله ويرى أن مهمته هى التأثير فيه، والتعبير عن هذا المجتمع وأزماته وظواهره وبنيته وتركيبته وتشوهاته.


ستجد أنك تقرأ عن مصر وربما شيئاً عن العالم العربى والعالم الثالث عموماً حين تقرأ ما زعمت نعمات أنه يوميات المرض، فلا هى اكتفت بأن تحكى لنا عن فصل المرض فى حياتها، ولا اكتفت بأن تتكلم عن نعمات التى أرادت أن تكون إنسانة وكاتبة، إنسانة أولاً حرة متعلمة مثقفة، تقتنص من حقوقها ما يحجبه أو يمنعه عنها الآخرون.


ينعكس هذا على كتابتها الأخرى، فستجد معظمها من حياتها ومن تجربتها المباشرة المعاشة وهى ليست تجربة ذاتية، لكنها تجربة ملأى بالآخرين أبطالاً فى حياتها، قاهرين أو مقهورين.


أعلم هذا لأننى بدأت قراءتها بـ«يوميات امرأة مشعة» التى تجولت من خلالها فى سائر مراحل وتفاصيل وأحداث حياتها، وقد كتبتْها فى مرحلة إصابتها بالسرطان، بعد ذلك كنت أجد الشخصيات والأحداث فى قصص أخرى لها حتى إننى تعرفت على شخصية شقيقها الحقيقى فى قصة «ضلع أعوج».


فى هذه القصة، أقصد «ضلع أعوج» حشدت نعمات الكثير من الأحداث والرؤى، حيث يمكننا أن نتتبع البطلة التى يزورها أخوها وأسرته فى منزلها بإحدى المدن النائية، وقد استقلت بحياتها بعد انفصالها عن الأسرة بما أثاره ذلك من خلافاتٍ وعواصف، وبينما هى تظن أن سبب الزيارة هو كسر الحصار الذى فرضوه عليها، إذا بها تتبيَّن بعد قليل أن السبب الحقيقى هو رغبتهم فى أن تتولى هى رعاية أبيهم المسن الذى بدأ المرض يزحف إلى جسده ويستوطنه، متنصلين من تلك المسئولية، ملقين بعبئها عليها، هى التى لم تحظ من هذا الأب بمثل ما حظوا به منذ ولادتها أنثى وولادة شقيقيها ذكوراً، وكان هذا من أسباب شقائها وتعاستها اللذين استمرا معها ورافقاها عبر مسيرة حياتها الشاقة، لذلك رفضت الاقتراح بكل عناد وإصرار.


فى تلك الزيارة تأتنس بابنة شقيقها سارة، إذ تجدها يقظة العقل مرهفة الحس حسنة الذوق، بينما يشكو أبوها شقيق البطلة الراوية من عنادها وتصلب رأيها، وبالطبع ترى فيها البطلة طفولتها وإعادة إنتاج لمأساتها وتصفها بأنها شجرة طيبة تنمو فى تربة من نفتالين، أما شقيق سارة البدين الذى يشبه أمه كما تصفه البطلة فيتلفظ بعبارة فى نهاية الزيارة، تشى بكل شىء وتمزق كل الأواصر فى نفسها :«بيتك جميل يا عمتى، صحيح إنه هيبقى بتاعنا لما تموتى؟».


أمّا قصتها «العصافير تؤرِّق صمت المدينة» التى نُشِرَت فى «مجلة إبداع» فى صيف عام 1994، فقد نالت هجوماً وصفته الكاتبة بالشرس. تتحدّث القصة عن امرأة تعيش فى مدينة جديدة لا يسكنها سوى عدد قليل من الناس، وتعيش وحيدةً فى عمارة يقطن فيها أيضاً جار ملتحٍ وزوجته، وهما لا يلقيان عليها السلام، بل ويتلف أطفالهما زهورها التى تضعها أمام باب شقتها.


ويحدث ذات صباح أن ترى من خلف النافذة رجلاً وامرأة يتبادلان الحب فى سيَّارة قديمة، فيرد إلى خاطرها أنَّ الاثنين عاشقان لكنهما بلا بيت، بينما هى تعيش فى بيت ولكن بلا حب أو عشق وتدرك أنها لم تعرف هذا الحب ولم تر أيَّاً من أهلها أو أقاربها يعيشون حباً كهذا، وتعود إلى ذكرياتها ونشأتها وما كان يردده جدها من عبارات تمجد فحولته الذكورية أمام أحفاده، بينما هى واقفة تتابع دجاجة فى ماء مغلى.


نُشرت القصة فى مجلة «إبداع» بعد أن امتنعت عن نشرها مجلات عدة، وقد طالت المدة بين إرسالها إلى «إبداع» وبين النشر حتى أن الكاتبة قد نسيتها إلى أن فوجئت بمن يخبرها بأن لها قصة فجَّرت أزمة فى الهيئة العامة للكتاب، وعرفت بعد ذلك من جريدة «أخبار الأدب» وكذلك من الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى، رئيس تحرير «إبداع» وقتها، أنَّ عمال المطبعة فى الهيئة رفضوا جمع القصة وطباعتها، مما اضطره إلى جمعها فى مطابع «الأهرام» وضمها لباقى محتويات العدد لتطبع معها فى الهيئة، هذا مع الأخذ فى الاعتبار أن القصة قد نشرت بعد حذف أجزاء منها.


ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل شنَّت إحدى المجلات هجوماً شرساً على الكاتبة واصفة إياها بأنها كاتبة جنس.. وانتقلت الحملة إلى صحف الأصوليين وامتدت لتشمل حجازى ووزير الثقافة فاروق حسنى بدعوى أن مثل هذه الكتابات يجب ألا أن تنشرها مجلة تابعة للدولة.


تذكر نعمات من ساندوها فى تلك المحنة ومنهم: أديب مصر العظيم نجيب محفوظ الذى أرسل رسالة مع الكاتب سعيد الكفراوى (كما تقول فى شهادة لها عن الرقابة والمنع) إلى مسئول الصفحة فى إحدى المجلات التى هاجمتها يقول فيها: ليست قصص نعمات البحيرى هى ما سيفسد أخلاق الشعب المصرى. وتقول نعمات أيضاً إنها حظيت بمساندة قوية من الدكتور جابر عصفور والدكتورة لطيفة الزيات.

فى قصتها «سبع نساء فى غرفة واحدة» نجدُها تحكى عن رحلة لأوروبا وتذكر أسماء الزميلات بقدر كبير من الجرأة، وفى قصة «ليلة حب» نجد الزوجة التى تقيم مع زوجها العراقى وقد عاد من الجبهة حيث يعمل مراسلاً صحفياً، وقد جهزت كل شىء لقضاء ليلة حب معه: الورود والشموع والموسيقى، لكنها تُفسد الليلة لأنها بدون قصد مسحت الزجاج بورقة جريدة عليها صورة الرئيس صدام وألقت بها فى سلة المهملات. ركب الرعب زوجها وصار كل همهما التخلص من الصورة دون أى أثر، والتخلص أيضاً من هذا الخوف وهو ما لم يستطيعاه، فسدت الليلة بسبب الثالث الذى حل بينهما.


وتطوف بنا نعمات البحيرى فى تجربة حياتها الخصبة والمضنية فتكتب فى «ارتحالات اللؤلؤ» كشف حسابٍ غير ختامى عن تجربة زواجها وانفصالها فتقول: «فشلتُ فى أن أحتفظ برجل فى بيتى وطفل فى أحشائى، وعلى الجانب الآخر أهدانى زوجى السابق ديوان شعر يناجينى فى قصيدة، ويمدحنى فى قصيدة ويهجونى فى باقى الديوان».


نحتاج إلى الكثير من الوقت لكى نتحدث عن الراحلة نعمات البحيرى، ويكفى أن أذكر بعض عناوين قصصها ومقالاتها، فتحت كل عنوان يوجد الكثير للحديث عنه «العاشقون، وجهك وأطفالى، أشجار الزيتون، أبيض وأسود، تورُّط جميل، أكتب من أجل تحرير الرجل أيضاً، حدود المتاهة، حلم الرمل»، وروايتها «أشجار قليلة عند المنحنى» التى أسستها على تجربة زواجها وفترة وجودها بالعراق، وغيرها الكثير من الأعمال كتبتها عبر مسيرتها الإبداعية التى بدأت منذُ مطلع الثمانينيات وحتى وفاتها عام 2008.


نعمات البحيرى تمثل تجربة إنسانية فذة، فيها كفاح وصراع ونجاح وإخفاق، وقد ظلت الكتابة أداة توثيقها لهذه التجربة الثرية، نجحت بها فى التعبير عن صوت نعمات الشخصى الذى أرادته دائماً.