شِيزوفرينيا

«يوميات قاض17» قصة قصيرة للكاتب المستشار بهاء المري

ارشيفيه
ارشيفيه

وقف في القَفص مُبتسمًا بلحيته السوداء المُهذَّبة المُهَنْدَمة لا يلوى على شيء، كوكبةٌ من مَشاهير المُحامين انتصبت أمام المنصة للدفاع عنه، قاطَعَهم فَورَ مُثولهم ليَتحدَّث قبلهم، رمقوه استنكارًا ولكنه لم يَسكُت.         

لم يدْر أنَّ القاضي وَدَّ في قرارة نفسه أن يَغُوصَ بداخله، ليرى كيف يفكر، وما وجه قناعته بما ارتكب، وماذا لو أنه استبدلَ الأدوار، فكان هو وابنته أو زوجته مكان مَن فعَلَ بهم ما فَعل، وكيف يَرى حُكم الدين الذي الْتَحَى امتثالًا لأحكامه.  

رفع القاضي كفَّه في مواجهة الدفاع يَعني أنْ ترَيَّثوا، ثم أشار إليه ليأتي بما عنده.                

ظنَّ أنه على مِنبر زاوية أسفل عمارة أو في نجع أو كفر أو حارة مجهولة، بَسْمَل وحَمدَ وأثنى، واسترسلَ في مُقدمة طويلة، حمْلَق فيه بعض مُحاميه - من دون جدوى- ليَختصر.

وضع القاضي كُوعهُ الأيمن على المنصة، وأقام ساعده وأسند على كفه الأيمن وجهه والتفَتَ إليه في القفص يُتابعه، نَغَزَه عضو اليسار على استخفاء نَغْزًا خفيفًا، مدَّ القاضي يُسراه برفق وربَتَ بهدوءٍ على رجله بمعنى: انتظر.

يستمر الشاب في خُطبته مبررا جريمته، ما صنعْتُه ليس من عِندي، جمَعْتُه من الصُحف والمواقع الإلكترونية وأعدتُ نشره على صفحتي، فلِمَ انزعاج السلطات هكذا، ولم تلك الهمَّة في مداهمتي وضبْطي، هذا الذي شكاني وهبوا لنُصرته عَلماني لا يُقيمُ للدين وزنًا، ولا يريدها دولة إسلامية، كم هاجمَنا بغير حقٍ مِرارًا وتِكرارًا، ولم ينهض أحدٌ لنُصرتنا.  

أنهى حديثه وأعقَبه المدافعون عنه، فصالوا وجالوا التماسًا لبراءته.

كان القاضي يُتابعهم وشريط أحداث القضية يمرُّ ببطءٍ أمام عينيه، مُدربٌ في نادى اجتماعي رياضي بمدينةٍ ما، كان يُصوِّر لقاءاته الجنسية مع بعض عضوات النادي، تَسرَّبَ الأمر وصار فضيحة كبرى، وجَد الشاب وجماعته في الحادث مأربًا، هذه المدينة هي مدينة ذلك الرجل الذي يُناصبهم العَداء - السياسي -على حد زَعْمه، وهو وأسرته أعضاء في ذات النادي، فليُهاجَموه على صفحات التواصل الاجتماعي ويُنسبُ إلى ابنته أنَّ المدرب عاشَرها هي الأخرى.

تلقَّف الشاب الملتحي الحدَثَ، وأنشأ صفحة على "الفيس بوك" باسم مستعار وراح يَنشُر ويَنشُر.  

غلَبَتْ القاضي ابتسامة تعَجُّب، انفرجَت شفتاه عنها لا إراديا والتفتَ إليه يسأله:

- وهل من الدين اغتياب الناس، وقذفهم بالتَّخفِّي وراءَ أسماء مُستعارة؟! 

تَحسَّسَ لحيته مُرورًا بها من أعلى إلى أسفل عِدَّة مرات وأجاب مُبتسمًا: 

- بل يُباح دمه!!