يوميات الأخبار

المكحلة

تكتبها اليوم : سناء مصطفى
تكتبها اليوم : سناء مصطفى

سامحينى.. أمى هى اللى أصرت على كل دا.. قالها، وهو يضغط حروف كلمة «أمى»، كأنه يستجدى مشاعرى، بينما لم أعقب بكلمة

خرجنا من عند الطبيب -زوجى وأنا- صامتين، يتحاشى كلانا النظر إلى رفيقه. أنشغل فى قراءة الحروف المبعثرة على لوحات السيارات التى تروح وتجيء من حولنا، وأعيد ترتيبها-كعادتي- لأصنع منها كلمات عدة. (ل – ح – ك): حلك – كلح – كحل، يا له من يوم لا يريد أن ينتهي!

تذكرت المكحلة التى بحثتُ عنها فى كل مكان محتمل هذا الصباح، فلم أجدها. شيء غريب! كانت ممتلئة تقريبا بالكحل النقى منذ أن أعطتنى أمى إياها بعد إنجاب ابنى الوحيد منذ سبع سنوات تقريبا، وطلبتْ منى أن أكحل عينيه كل صباح حتى تصبحا أكثر اتساعا وجاذبية. هل فعلتُ ذلك؟ لا أتذكر، لكنّ عينى صغيرى جميلتان وجذابتان على أية حال. ذكرنى بالمكحلة حلمٌ رأيتُ فيه أبى يمسك بمخطوط رواية انتهيت من كتابتها. يقلبُ فى الأوراق ويقرأ فى بعضها بصوتٍ عال، ثم يقترح تعديلات تربكني. قبل أن أناقشه تسقط الأوراق من يده، وتتبعثر، فأنحنى لأجمعها. أجد بين الأوراق المكحلة التى أعطتها لى أمى منذ سبع سنوات، لكنها فارغة إلا من آثار الكحل السوداء على جوانبها.

عطشانة

يركن زوجى سيارته أمام كشك صغير على ناصية الشارع، أفتح باب السيارة، وأسأله لو يرغب فى مشروب بعينه، لكنه يهز رأسه بالنفي. أقف أمام الكشك فيأتينى صوت البائع: أنا قاعد دلوقت باسمع الأغنية اللى بنحبها، وبافكر فيكي. يا سلااام «كحيل والكحل من بابل وإمتى عيوننا تتقابل. ياريت نظرة وأنا قابل ولو بعتاب». تعالى قابلينى وعاتبينى يا ست البنات، وحقك على راسي.
لو سمحت

انتبه البائع لصوتي، فوضع هاتفه جانبا واستدار ناحيتي. كان رجلا فى الأربعينات من العمر حليق الذقن، شاربه مصفف بعناية، بينما عيناه ضيقتان بشكل ملحوظ.

تحت أمرك يا مدام

2 عصير وقزازتين مياه صغيرين لو سمحت.

ناولنى البائع ما طلبت، رويت عطشى ثم حاسبته، وانصرفت.

جلست فى مقعدي، وناولت زوجى الماء والعصير دون كلمة واحدة.

أمسكت هاتفي، وكتبت فى مربع البحث على يوتيوب: «كحيل والكحل من بابل». انطلق صوت محمد قنديل يغني، بينما أغمضتُّ عينيَّ وألقيت رأسى للوراء، فى محاولة لإخماد ثورة بركان يكاد ينفجر.

كحيل والكحل من بابل وامتى عيوننا تتقابل

ياريت نظرة وأنا قابل ولو بعتاب

نسيت أعمل لقلبى حجاب وقلبى داب

سحب رمشه ورد الباب

عاوزة سيجارة

اختلت عجلة القيادة فى يد زوجي، وأوقف سيارته فجأة، فكادت رأسى ترتطم بالتابلوه

سيجارة! انتِ من إمتى بتدخني؟!

كنت بادخن فى السر، لكن دلوقت ليا مزاج أدخن قدامك.

أجبته دون أن أنظر إليه.

ربما أحس زوجى بما يعتمل داخلي، وربما خشى انفجارى الذى تنبئ به ملامحى ونبرة التحدى التى قصدتُّ أن تظهرها كلماتي. مد يده إليّ بعلبة سجائره دون أن ينطق، لكن نظرة انكسار بدت على وجهه، تجاهلتها. تناولت ولاعته وأشعلتُ سيجارة، ثم رحت أنفث دخانها بلا مبالاة، أو هكذا تظاهرت.
لا يكف أبى عن التدخل فى كل كبيرة وصغيرة فى حياتى حتى بعد وفاته. توقفتُ عن الكتابة التى أعشقها منذ أن نُشرت لى لأول مرة قصة قصيرة فى إحدى الصحف المحلية فى عامى الجامعى الأول. هاتفنى يومها موبخا: إيه اللى انتِ كتباه دا؟ شكلى كان زى الزفت وزميلى فى الشغل بيقولى بنتك منشور لها قصة عاطفية. يلاحقنى فى منامى الآن ليقترح عليّ تعديلات فى رواية فقط أحلم بكتابتها. يقترح! منذ متى وأبى يقترحّ!؟ هو يأمر فقط وعلينا السمع والطاعة. يا لسطوة الموت! يبدو أن أشياءً كثيرة تتغير بسببه.

ازاى ضميرك طاوعك السنين دى كلها متصارحنيش، وسايبنى أجلد نفسى وأسمع كلام يسم البدن من أهلك ويقولوا عليّ وشى نحس عليك.
لم ينطق، وفى الحقيقة لم أنتظر منه جوابا، كأننى كنت أصرخ فيه فى خيالي، وكأن عذابات هذه السنين قد تجسدت أمامى وحشا كاسرا يكاد يطبق أنيابه على روحى فينزعها. نصيبى من الجمال محدود، كنت أعى هذه الحقيقة جيدا، فلا أطمح فى عريس وسيم أو غنى لأن هؤلاء فى اعتقادى لا تلفت نظرهم إلا البنت الجميلة الجريئة التى ترتدى ثيابا لافتة، وأنا لم أكن واحدة من هؤلاء. فقط حلمتُ بزوج يروى ظمأ روحى للحياة، يحتضننى حين أبكي، ويغفر لى حين أخطئ، ويأخذ بيدى لغزو تلك المناطق المعتمة فى ذاكرتي، والتى أخشى الاقتراب منها، وأجد فى صحبته متسعا للقراءة والكتابة التى أحبها. حين تقدم «صلاح» طالبا يدي، ترددت فى البداية وسط دهشة أهلي. شاب وسيم، سنه مناسب، ملابسه مهندمة، يعمل موظفا فى شركة المياه، ويمتلك شقة فى بيت العائلة الذى يعيش فيه مع أمه وأختيه، بينما توفى والده منذ سنوات بعيدة. ترددتُّ حين نظرت إليه لأول مرة لأننى شعرتُ أن ملامحه أجمل من ملامحي، فما الذى يجعل شابا بهذه المواصفات يقدم على الزواج من فتاة ليست جميلة، بل يكاد يكون هو أجمل منها؟ لم يستمر ترددى طويلا، فكيف لعريس بمثل هذه المزايا أن يرفض؟ صرنا زوجين بعد شهرين وعشرة أيام فقط، ثم..

سامحيني.. أمى هى اللى أصرت على كل دا.

قالها، وهو يضغط حروف كلمة «أمي»، كأنه يستجدى مشاعري، بينما لم أعقب بكلمة.

أنا ابنها الوحيد، وكانت خايفة أعمل العملية قبل ما أتجوز، وتحصل مشاكل أو مقدرش أخلف الولد اللى نفسها يشيل اسمى واسم أبويا.
لا أتذكر من أيام زواجى الأولى إلا استيقاظ زوجى فى صبيحة اليوم الثالث أو الرابع بعد زفافنا، على ألم شديد فى ساقيه، وعجزه عن الوقوف عليهما. اتصلتْ والدتُه بعمه فهرع إلى البيت، وذهبا به إلى الطبيب، لأعرف بعد عودتهم أنه يحتاج لجراحة عاجلة وكبيرة فى ساقيه. هكذا فجأة! نعم، ولم أسأل بعدها عن شيء، بل لم يكن لديّ وقت لأتساءل، أو لأجد من يجيبنى على تساؤلاتي. «الحريم أعتاب» كانت هذه الجملة تخترق سمعى كرصاصة، وتشق قلبى كخنجر كلما سمعتها من عماته أو خالته، وما أكثر ما سمعتها. قرابة الثمانية سنوات من العذاب، والمعاناة، لا يكاد زوجى يخرج من عملية جراحية حتى يبدأ أخرى، دون فرصة لالتقاط الأنفاس، أو الاهتمام بطفل شاء القدر أن يأتى للحياة بعد تسعة أشهر من الزواج، بينما والده ممدد على السرير بشرائح ومسامير فى ساقيه، ممنوع بأمر الأطباء حتى من محاولة الوقوف، كيلا تفشل العملية هذه المرة كما فشلت سابقتها، إثر ممارسة زوجية تزحزح فيها مسماران عن مكانهما احتجاجًا وتمردًا. لم يكن مسموحا لى بالذهاب معهم فى أى مرة زار فيها طبيبا أو أجرى جراحة، فهذه مشاوير، حسب تقاليد العائلة، لا يقوم بها إلا الرجال، باستثناء أمه التى تفرض رأيها على الجميع.

اكتشف الدكاترة إن عندى عيب خلقى عمل تشوه فى عظام الساقين، والعلاج هيحتاج عملية كبيرة على كذا مرحلة ممكن تمتد لسنين. أمى كانت خايفة لو عملت العملية دى قبل جوازى تحصل مشكلة ومقدرش أخلف.

فى الأيام الأولى بعد الولادة كانت أمى تطلب منى أن أضع بضع قطرات من لبن الثدى على مرود المكحلة، ثم تغمسه فى الكحل، وتكحل به عينى صغيري. يالطقوس الأمهات! لم يشبع طفلى من حضني، ولم يشبع من ثديي، فقد اعتمد على اللبن الصناعى بعد أشهر قليلة من ولادته، لأن حِمْل والده كان أثقل من أن يتقبل معه أحمالا أخرى. تركته لأمى معظم الوقت، وتفرغتُ لرعاية زوجى الذى كان لا يغادر البيت إلا للذهاب مع والدته وعمه أو خاله للمستشفى، للمتابعة أو لإجراء جراحة جديدة. اقترحت حماتى أن أبقى مع صغيرى لأعوضه عن حرمانه منى فى تلك الأيام التى يلازم فيها زوجى المستشفى حتى عودته للبيت. أكثر من سبع سنوات كاملة منذ زواجى لم أقرأ صفحة واحدة من كتاب، ولم أكتب كلمة، رغم ما مررت به من أحداث ومواقف وعذابات اكتفيت حيالها بالصمت والصبر والدعاء فهذا قدري، وليس لنا فى أقدارنا حيلة.

أرجوكِ سامحينى وسامحى أمي، هى دى الوقت بين إيدين ربنا، وميجوزش عليها غير الرحمة.

«هى دى الوقت بين إيدين ربنا». لم أكن لأكتشف حقيقة الأمر إلا لأنها «دى الوقت بين إيدين ربنا». ماتت حماتى فجأة، ذهبت ابنتها لتوقظها فى الصباح حين تأخرت فى النوم على غير عادتها، لتصعد إلينا صرختها عالية ملتاعة، قبل أيام قليلة من موعد نزع الشريحة والمسامير من ساقى زوجى بعد عمليته الأخيرة.

حمدا لله على سلامتك. دى الوقت أقدر أقولك كفارة يا بطل. الواحد مش مصدق إن مر أكتر من 8 سنين من وقت ما جيتلى أول مرة.
هم 7 سنين وعشر شهور بالظبط يا دكتور. ابننا كمل سبع سنين الشهر اللى فات.

أنا أقصد أول مرة الأستاذ «صلاح» جالى فيها وشخصنا حالته، مقصدش ميعاد أول عملية. الملف بتاعه قدامى أهه

«طلقنى يا صلاح».

قلتها بثبات، وبلهجة حاسمة، وحتى لا أترك له مجالا للنقاش أو لاستيعاب الصدمة، طلبت منه أن يركن السيارة لأنزل منها.

أنا خلاص خفيت يا سماح، ومشوار العمليات انتهى، فكرى ف «سيف».

طلقنى يا صلاح

ركن سيارته فى استسلام، وقبل أن أفتح الباب لأغادرها، رن هاتفي. كانت أمى تصرخ:

الحقينى يا «سماح»! «سيف» صحى من النوم بيصرخ وبيقولى مش شايف حاجة. الواد عنيه مفتحة بس مش شايف منها يا بنتي.
تمت