«بيكيا» قصة قصيرة للكاتب الدكتور صلاح البسيوني

صلاح البسيوني 
صلاح البسيوني 

 بيكيا.. بيكيا.. أب بيكيا

هكذا علا صوت يقطع صمت الحارة في ساعة الفجر والناس لا يزال النوم يستولي عليهم.. والبعض منهم عائد من صلاة الفجر يتلقى هذا النداء في تعجب.

 

بيكيا.. بيكيا.. أب بيكيا

النظرات المتسائلة تتحول إلى همهمات لتصبح همسـات لا حول ولا قوة إلا بالله.. روبا بيكيا في الفجر؟ هكذا تساءل أحدهم.. يردد آخر الناس ما بقاش عندها شيء قديم للبيع.. كل شيء يستعمل حتى الموت.. رد صوت ثالث يمكن معاه حاجات قديمة روبابيكيا للبيع .. أجابه رابع هي فين البيكيا ؟ الراجل مش باين عليه بتاع روبابيكيا .. ولا توجد عربة يدفعها أمامه أو شيء يحمله على كتفه.. يتدخل صوت خامس في الحوار يمكن الراجل جديد في المهنة وعشان كده لسه ما اتبهدلش .. يتدخل الأول ليحسم النقاش يا جماعة هو فيه حد يبيع أو يشتري روبابيكيا في الفجر؟ الراجل ده مش طبيعي.

 

 بيكيا .. بيكيا.. أب بيكيا

صوت الرجل يعلوا مرددا النداء وهو في مشيته شبه متهالك وكأنه يخرج مع صوته أنفاسه المتحشرجة في صدره المختنق ربما من الإجهاد وقد بدا عليه عوامل الزمن وقد انتشرت خطوطها أو ربما من عوامل داخلية يختزنها في صدره ويبوح بها في نداءه.. يعود الرجل الثاني إلى الحوار قائلا في تعجب: أنتم مش سامعين بقول إيه ؟ أب بيكيا يشاركه الثالث في الحوار قائلا: أنت عارف أن الناس دي لها مصطلحات خاصة عند النداء فهم إما يختصروا الكلمات أو يأكلوها أو يحوروها.. يتنهد الرابع قائلا يا جماعة إحنا ليه نوجع دماغنا.. ما أحنا أصبحنا قريبين منه.. نسأله إيه اللي بعمله في الفجر.

 

بيكيا.. بيكيا.. أب بيكيا

يقترب الصوت منهم.. يبادره أحدهم يا عم الحاج هو فيه أحد صاحي دلوقي عشان يبيع روبابيكيا.. حرام عليك تقلق الناس وتتعب نفسك.. يلتفت إليهم العجوز وهو يردد .. بيكيا.. بيكيا.. أب بيكيا.. هم أحد الرجال أن يوبخه لولا أن لاحظ أخدود الدموع الذي ينحدر على وجهه وهو لا يزال يردد بيكيا .. بيكيا .. أب بيكيا ..

 

 فيتحول إلى أصدقاءه قائلا لا حول ولا قوة إلا بالله.. الرجل يبكي يا جماعة.. ويمد يده ممسكا به.. يجذب العجوز يده ويعلو صوته في تهدج وشجن بيكيا .. بيكيا .. أب بيكيا .. يحيط به الجمع البعض يربت على كتفه وآخر يمسح دمعه بمنديل ورقي.. وثالث يسأله فيه إيه يا عم الحاج؟ .. الدنيـا لسه بخير.. ما في حاجة تستأهل اللي أنت فيه؟ .. يردد العجوز بصوت متهدج.. بيكيا .. بيكيا .. أب بيكيا .. ويجهش في البكاء وقد انهارت مقاومته.. فيحتضنه أحدهم قبل أن يسقط أرضا.. ويساعده آخر لينتقلوا من وسط الشارع إلى مدخل أحد المنازل القديمة ويجلسوه على حجر جيري يقبع في مدخله مستندا على صدر أحدهم مغشي عليه.

 

استعاد الرجل وعيه قبل أن يستعيد تماسكه وهو يردد كل شيء دلوقتي أصبح للبيع وبثمن رخيص .. وربما بدون ثمن.. الأخ يبيع أخوه.. والابن يبيع أبوه.. وأصبح الإنسان الذي كرمة الله أرخص سلعة.. والله وحده يعلم إلى أين ستنتهي بنا الأمور.. كله للبيع.. كله بقى بيكيا .. الحياة كلها أصبحت بيكيا .

 

توقف عن الحديث وهو ينظر للوجوه المحيطة به ليرى نظرات الشفقة تطل من عيونهم فأكمل حديثه.. أنا مش مجنون لا سمح الله.. أنا راجل ضيع عمره في تربية أولاده.. لا.. عمري ما ضاع.. لأني ربيتهم أحسن تربية.. وعلمتهم أحسن تعليم.. وصرفت عليهم الكثير والكثير.. ولم أبخل عليهم بشيء .. وهل يمكن أن يبخل أب على أبناءه؟

 

لكن.. وآه من كلمة لكن.. بعدما أمضيت عمري في رعايتهم وتوفير كل ما يتمنوا بل أكثر مما تمنوا أو حلموا به.. أداروا لي ظهورهم وانقلبت وجوههم.. وكلما حاولت أن أضمهم طالبوا بالثمن.. ثمن الأبوة أو ثمن البنوة؟ لست أدري.. فأدفع وأعطي وأحقق رغبات أو مشروع رغبات.. وبعدما ينتهي العطاء تغيب الشمس وتتجمع السحب والغيوم.. ترعد وتبرق سماء علاقتنا من جديد.. تنقلب وجوههم وتتغير كلماتهم.. فأعطي وأعطي راجيا أن تلين قلوبهم.. وكأنني أطلب بنوتهم أو أستجدي أبوتي.. حتى ضاق بي الحال واختنقت الأحلام والآمال.. وثار داخلي البركان.. هل أصبحت أبيع أبوتي؟ أدفع لهم ثمنها لمشاعر زائفة سرعان ما تتلاشى.. هدني التفكير وقتلني عدم النوم.. وضاق صدري كما ضاق بي المكان. فخرجت إلى الشارع أصرخ في الناس أو في الشارع أو في الفضاء لعل هناك أحد في حاجة إلى أب منهك.. مستعمل.. بيكيا .. يجيب النداء .. لعله يأخذني للأبد وليس للحظات لتنتهي دوامة البيع والشراء ومعها ينتهي المزاد وأستريح.. فأخذت أصرخ بالنداء.

 

بيكيا .. بيكيا .. أب بيكيا

عندما وصل الرجل في حديثه إلى هذه اللحظة كانت الدموع تنهمر من أعيننا لتتحول إلى غشاوة نحاول إزالتها عن جفوننا.. والصوت يبتعد والرؤيا تتلاشى والعجوز يختفي ولازلنا نسمع من بعيد صوته المتهدج ينادي بيكيا .. بيكيا .. أب بيكيا