«التحطيب».. لعبة الشـُجعان| عصا مصرية أصولها فرعونية

لعبة التحطيب - صورة أرشيفية
لعبة التحطيب - صورة أرشيفية

■ كتب: محمد نور

بالجلباب والقفطان والعِمة البيضاء والعصا الخيزران،  بادرنى على طايع، كبير إحدى القبائل بمدينة إسنا في الأقصر، ونقيب الأشراف، عندما سألته عن التحطيب، فقال إنه معروف فى الصعيد بـ«لعبة الرجال الأقوياء الشجعان» فهى اللعبة الأكثر شهرة فى المناسبات والاحتفالات بالصعيد، كما أن التحطيب فلكلور وتراث شعبي، ويجسّد  معنى الشجاعة والقوة لمن يمارسه، واللعبة لها أصول وآداب متوارثة، فكان والده يقول له إنها تنقسم لأربعة أثلاث، أدب وأخلاق، وعافية وفن، إضافة إلى الذكاء والنباهة.

في مثل هذه الأيام من كل عام، تشهد قرية النمسا التابعة لمركز إسنا، احتفالًا بمولد العارف بالله السلطان عبدالجليل، حيث تقام على هامش الاحتفالات حلقات التحطيب، التى يتميز بها أبناء الجنوب عمومًا.

ويوضح طايع أنه خلال الاحتفال بمولد القطب الصوفي والقائد الاسلامي الأشهر حفيد الإمام الحسين (رضى الله عنه) تُنطَّم حلقات التحطيب بمشاركة العديد من اللاعبين، فاللعبة عبارة عن  منافسة بين اثنين، وحولهم المئات من محبيها، حيث يمسك كل منافس بعصا ويحاول أحدهما النيل من الآخر فى وضع العصا بمكان مكشوف من رأسه أو صدره أو ظهره، ويتفنن الآخر فى حماية كل جسده من وصول العصا إليه وكل ذلك دون إلحاق الأذى.

ويضيف: التحطيب لعبة شعبية للدفاع عن النفس، فعلى مر العصور كان القتال بين القبائل بالعصا (الشومة) وهى مصنوعة من الخشب القوى والحطب الخفيف الذى يمكن حمله بذراع واحدة لفترة طويلة أثناء اللعب، وسُميت بالتحطيب نسبة للعصى التى يلعب بها الشباب والكبار، وهى مصنوعة من حطب الأشجار، وقد ظهرت عصا من الخيزران وهو نبات يتم استيراده من إندونيسيا.

◄ اقرأ أيضًا | حكايات| رحلة قطار القصب بين المنازل في الأقصر

ورغم مرور الأزمنة والعصور تزداد شعبية هذه اللعبة وتتسع دائرة عشاقها، خاصة فى قرى النمسا والقرايا واللبائدة والميساوية والنواصر والمطاعنة والطوايع وشرق إسنا. ويعد حسين العمدة من مشاهير لعبة التحطيب، وهو شاب حاصل على بكالوريوس زراعة من نجع الطوايع، والمهندس سهم الليل صلاح، وشعبان أبو خشيبة، والصياد عبدالمجيد بدوي.

وحلقة التحطيب تقام بين اثنين من اللاعبين وسط أجواء رياضية وفلكلورية مبهرة للناظرين، حيث يتجمع شيوخ ولاعبو التحطيب الأشهر فى الصعيد، ويتم إجراء مباريات ومبارزة بين الكبار والشباب خلال الاحتفالية وسط أجواء مبهجة. 

وبحسب مصطفى حسَّان، من أبناء الأقصر وأحد لاعبى التحطيب، فإن هذه اللعبة تعلِّم الشجاعة والاعتماد على النفس، لافتًا إلى أن البعض لديهم تصوّر خاطئ عن اللعبة ويعتبرها عنيفة وخطيرة، وأن من يمارسها يتعرض لإصابات قد تودى بحياته، وهذا كان يحدث بالفعل فى الماضي فى زمن الفتوات إبان فترة حكم المماليك، لكن الآن التحطيب لعبة استعراضية لها أصول وقواعد وأسس، ومَنْ يمارسها يجب أن يتمتع بالمهارة.    

وحول قواعد اللعبة يقول حسان: «تبدأ اللعبة بالمصافحة والسلام بين اللاعبين، وفى حالة تقابل لاعب شاب أمام رجل  كبير سنّا، لا يبدأ الشاب برفع العصا إلا بعد أن يفعل ذلك اللاعب الأكبر احترامًا وتوقيرًا له»، موضحًا أن من شروط اللعبة ألا يتجاوز طول العصا 150 سنتيمترًا، وأن تُمارس فى مساحة تتراوح بين 20 و30 مترًا مربعًا، وأن يرتدى اللاعبان الجلباب الصعيدى الذى يتميز بالأكمام الواسعة حتى تكون لديه حرية فى الحركة ويسهل عليه التلويح بالعصا». 

ووفقا لباحثين فى الآثار والتاريخ، فإن التحطيب من الموروثات القديمة، كما يؤكد الدكتور عبدالمنعم  سعيد، أستاذ الآثار بجامعة أسوان، حيث تعود اللعبة إلى العصور الفرعونية، حيث رسومات عديدة على جدران معابد الكرنك ومقابر وادى الملوك تدل على أن التحطيب لعبة فرعونية قديمة، مشيرًا إلى أن منظمة اليونسكو أدرجت التحطيب قبل ست سنوات كتراث ثقافى عالمى غير مادي، ولذلك  أصبحت لهذه اللعبة أهمية كبيرة فى مختلف الدول ولها جمهور واسع. 

ويتابع: «التحطيب لعبة قتالية يمارسها الأقوياء، وقد اتخذها الملوك الفراعنة لتدريب الجنود على فنون القتال، وقد تم اكتشافها للمرة الأولى فى فترة حكم الأسرة الخامسة الفرعونية حيث اتخذها  الملك حورس الثانى كإحدى الوسائل لتدريب الجنود الفراعنة على مهارات القتال، وقد استمر وجود اللعبة بعد زمن الفراعنة وتحولت إلى لعبة شعبية يمارسها الشباب والأطفال فى الاحتفالات والمناسبات المختلفة بالصعيد.

ويوضح أن التحطيب كان لعبة تدريب وتعليم المبارزة بالسيف لجنود الفراعنة في الجيش، واستمرت كلعبة قتالية فى العصر الفاطمي، لكنه خلال القرنين الأخيرين أصبح لعبة استعراضية فى المناسبات والاحتفالات والمهرجانات، لافتًا إلى أن العديد من القبائل فى الصعيد تحرص على إقامة فقرات تحطيب فى المناسبات كالموالد والأفراح والنذور والطهور.

يشار إلى أن وزارة الثقافة المصرية تنظيم سنويًا مهرجانًا دوليًا للتحطيب فى مدينة الأقصر، ويؤكد محمد عبداللطيف الصغير، المستشار الإعلامى للمهرجان، أن وزارة الثقافة تقدمت بطلب لمنظمة اليونسكو العالمية بإدراج لعبة التحطيب كتراث شعبي، وقد وافقت المنظمة فى عام 2016 على إدراجها كتراث ثقافى عالمى غير مادى للأهالى فى الصعيد، لافتًا إلى أن وزارة الثقافة تنظم المهرجان بجوار معبد الأقصر، وهو مهرجان دولى تشارك فيه وفود من دول عربية وأوروبية إضافة إلى دعوة السائحين للاستمتاع بمشاهدة اللعبة، ضمن وسائل الترويج للسياحة فى مصر.