الحرية الحائرة بين فوضى طاغية ومسؤوليه غائبة

نسرين موافي
نسرين موافي

بقلم: نسرين موافي 

منذ بدء الخليقة و الإنسان يكافح القيود.. فصراعه مع أي نظام أو قانون او حتى دين نابع في الحقيقة من سعيه للحرية المطلقة، سعيًا يؤرقه في كل وقت وأي عمر وزمن طوال حياته.

لكن..هل يوجد حقاً ما يسمي بالحرية المطلقة ؟؟ أم أن الحرية نفسها لها قيود و تحدها الحدود  ؟! 

فطرة يولد بها الانسان كسيل عارم ، يمارسها طفلا بصورة  مطلقة بلا قيد أو شرط أو حتى حساب ، ليتعلم مع الوقت الصواب و الخطأ ، و انهما قيد يضمن بهما المجتمع استمراريته، يدرك مع الوقت انها القدرة على الاختيار بكامل الإرادة و بوعي و معرفة فالعقل هو روحها..بدونه هي قوة مدمرة.

يتعلم ان حتى الحرية لها قيود و حدود تفرضها المعرفة والمسئولية و احترام حريات الاخرين ، إلا انها حدود مرنة لتتوائم و ظروف و حالة المجتمع في كل زمن. فهي المعنى الأقدر عليى خلق افكار تسهم في ارتقاء افراده و تساعدهم على الابداع و التقدم .
يقول ألبرت أينشتاين: (كل شيء عظيم خلقه إنسان حر).. فهي اذن الغاية الأسمى و الطريق للسعادة ، هي الحافز لكل ابداع هي اختيارك لتكون النسخة الافضل ، بل انها الحياة في حد ذاتها و الاصل في الاشياء ، فحتى النباتات تبحث عن مسارها الحر لتخرج الى النور حيث الحياة . بدونها يأكل القهر نفسك ، فتموت كجذع الشجر من الداخل فتبدو شامخًا كمظهر زائف من الخارج لكنك من الداخل هش..بل ميت.

في احدى المجلات سنة ١٩٥١ ذُكرت قصة على لسان الفنان العظيم يوسف وهبي عن موقف حدث معه اثناء زيارته للندن لقضاء اجازته الصيفية ، حيث استأجر شقة مفروشة ليفاجأ بزيارة من جاره الذي يسكن الدور العلوي ليسأله عن مواعيد نومه و يقظته ليرتب مواعيد لعب اطفاله في الحديقه بحيث لا تتعارض مع مواعيد راحة جاره ولا يقلقه لعب الاطفال .

لتقفز هذه القصة الى ذهني فورًا كلما رأيت أوجه الفوضى المتعددة في مجتمعنا و لنكتشف أنه وبعد اكثر من ٧٠ عاما لم يتغير شيء. 

لا زلنا لم نتنازل عن صراع طواحين الهواء في اثبات احقيتنا في الحرية المطلقة دون أن نسعى لها سعيها ، دون ان نحولها لفعل .. لممارسه حقيقية نابعة من داخلنا ، دون ان نلتفت الي حريات و حقوق الآخرين تماماً كالأطفال .

دون ان نوقن ان الحرية و المسئولية متلازمان فاذا انفصل احدهما عن الاخر اصبح كل منهما مدمر فالحرية بدون مسئولية فوضي و المسئولية بدون حرية سجن و هم معاً السعادة .

المجتمع المصري لم يعي حتي الان ماهية الحرية ، لم يمتلك النضج المؤهل لها ، و لم يحوكم حدودها بل انه لم يمتلك الحد الادني من ادواتها و متطلباتها المعرفية، هي بالنسبة له مجرد شعار يغازل به الساسة العامة التواقين بالفطرة لكسر كل القيود.

كلمة لها وقع السحر علي النفوس تشعر معها برحابة الحياة بمجرد نطقها  لكن لم يتطرق احد لأعبائها و لترسيخها كمفهوم فكل المطلوب منها هو السيطرة بها كحلم علي العامة.

لم يرسي المجتمع حتي الان قواعدها فمازال معناها غريب غير اصيلا بداخلنا ، طالما لازالت كلمة تُلفظ فقط عندما لا نرغب في تبرير افعالنا او عندما نشعر بالقهر و الاجبار فتصدر من افواهنا كرد فعل عكسي تلقائي ( أنا حر ) قولاً لا فعل.

فالحرية فعل يمارس و ليس شعار ، فنحن احرار بقدر ما يكون غيرنا احرارا ، بقدر ما نحترم حدود الآخرين و حرياتهم ، بقدر ما نفسح لهم مساحاتهم و نفرض معها احترام مساحاتنا الشخصية و الخاصة التي يحددها كل فرد تبعا لمقتضيات و ظروف حياته الخاصة.

إن ثقافة المجتمع لم تحمل افراده علي فهم و تعلم  أن لهم خصوصيات لا يضطلع عليها مخلوق فنشأوا منتهكين نفسيا لا يروا ضيرا من أن يعبث الغير بهواتفهم او يسألوهم في ادق خصوصياتهم أو اسرار بيوتهم او حتي يقتحموا عليهم علاقاتهم الخاصة و يرون هذا نوع من الاطمئنان و متابعة من من يهتمون لأمرهم ، بل ان البعض يصل الي ابعد من ذلك فيري هذا نوع من التقوي و تفعيل حدود الله و تناسوا ان الله عز و جل اعطي لهم حرية الاختيار بين الايمان و الكفر و فرض الخصوصية في البيت الواحد و بين افراد الاسرة . 

قولبوا الحرية لمصلحتهم و حولوها لفكر اقرب ما يكون للعبودية ، فهم فقط المخول لهم ممارساتها، هم فقط الاحرار في انتهاك حقوق الغير ، ليظهر جيل يبجل من يفتش في خصوصياتهم بدعوي الامر بالمعروف و النهي عن المنكر و يدافعون عنهم باستماتة متناسين الحق في الحرية و الخصوصية بل و حتي في ستر العورات من ان تصبح مشاع تتناقله الالسنة .

في مجتمعنا نحتاج للكثير من الحريات ..و لكي يتحرر المجتمع لابد ان يتحرر العقل بالمعرفة ، و لتمارس الحرية في كل اوجه حياتك و لتحصل عليها سياسياً و اقتصادياً لابد ان تنتزعها اجتماعياً فالانسان صاحب الروح الحرة فقط يستطيع ان يتحرر اقتصادياً و بالتالي سياسيا فلا يمكن ان يمارس مجتمع عبودية مجتمعية و ينتظر أن يمنح باقي حرياته كجائزة علي عبوديته . فالحرية لا تعطي كهبة و لا تأتي من خارجنا بل ترسخ في الروح و تمارس في الافعال .

ابدأوا بأنفسكم وغيروا منها،  اعطوها حريتها و اقيموا حدودكم الشخصية و اعطوا لكل من حولكم الفرصة ليتحرروا و يستشعروا قيمتهم ومساحتهم.

علموها لأولادكم، حرروهم من عبوديتكم لهم و اوقفوا انتهاكاتكم لخصوصياتهم دون ان ترفعوا مظلة الامان والحماية عنهم حتى يصلوا إلى بر الامان فيخرج لمجتمعنا جيل يمارس الحرية مجتمعيا و فكرياً …فيتحرر المجتمع ككل و يعود مجتمعاً مبدعاً بروح و افكار تطال السماء و عمل نباهي به الأمم و ننافسهم.

فالحرية بداية طريق الابداع و الابداع مفتاح التقدم .