قبة «رقية دودو» تنبض بالحياة

قبة رقية دودو
قبة رقية دودو

■ كتب: عصام عطية

يعج شارع سوق السلاح بمبانٍ تاريخية يفوح منها عبق التاريخ، بنيت فى عصور سابقة، تنتشر بها قباب تاريخية، منها قبة "رقية دودو"، التى لم تكن فى مأمن عن يد الإهمال، أصابتها لعنة الآثار المنسية فغرقت فى المياه الجوفية لسنوات كثيرة، حتى تم إنقاذها، ودبت فيها الروح مجددا بعد الترميم.
 

داخل شارع سوق السلاح، تقف أمام سبيل رقية دودو، الذى كان ملاذا للكثير ممن عانوا العطش، فروى ظمأهم، وأثلج قلوبهم، السبيل الثالث فى القاهرة الذى أنشئ لامرأة بعد وفاتها كما كتب الشباك الأوسط بالتغشية النحاسية: «رقية قد توفت وانقضت إلى رحمة الله المولى الكريم الغافر لجنات عدن فى نعيم القادر سنة ١١٧٤».

بعد ثلاثة أشهر نجح فريق عمل من مهندسى ومرممى وآثارى قطاعى المشروعات والآثار الإسلامية والقبطية واليهودية بالمجلس الأعلى للآثار بالتنسيق مع الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، فى الانتهاء من أعمال فك وإعادة تركيب وترميم قبة رقية دودو الأثرية بمنطقة الإمام الشافعي.

اسم دودو من اللغة الفارسية، يعنى هانم، وهى رقية دودو بنت بدوية شاهين، كانت ضمن إحدى محظيات قصور الأمراء العثمانيين اللاتى يقمن بترفيه وخدمة الأمراء، والاعتناء بأطفالهم، وقد كان يسمح للمحظيات بإقامة المنشآت فانشأته بدوية بنت شاهين عام «١١٧٤هـ ـ ١٧٦١م» حسبما أشارت إليه العديد من النقوش الكتابية التى وردت بواجهة السبيل صدقة على روح ابنتها الشابة رقية دودو بعد وفاتها فى سن صغيرة على إثر طاعون فتاك ضرب البلاد عام 1171هـ/1757م.
 

ورقية هى بنت الأمير «رضوان كتخدا الجلفي»، الذى كان أحد كبار أمراء المماليك الأغنياء بشدة، ولما كانت بدوية شاهين على جانب كبير من الثراء فقد أوقفت ما بقى من عمرها ومالها على أعمال البر والخيرات رحمة ونورا على عروستها الشابة، وكانت فى ذلك لا تبارى فكما أنشأت أجمل تربة بالأمام الشافعى، أنشأت كذلك أجمل سبيل لرى العطاشى بأعلاه كَّتاب لتعليم اليتامى بشارع سوق السلاح.

والسبيل حافل بالجمل الدعائية الجميلة الخاصة بالدعاء والرحمة ومنها «دودو رقية توفت وانقضت إلى رحمة المولى الكريم الغافر».

وقد وجد الفنانون الأتراك فى الأزهار والأشجار التى تنمو فى بلادهم مصدرا غنيا يماثلون به الطبيعة فى أبهى حللها حتى أصبحت هذه الأزهار والأشجار رموزا مميزة للفن التركى، ومن أهم وأشهر هذه الرموز النباتية «شجرة السرو»، وقد وجد منها عمود رخامى على قبر المرحومة الشابة رقية دودو بنت الست بدوية شاهين، فلم تجد الأم المكلومة الست بدوية شاهين أصدق من «شجرة السرو» لتعبر بها عن فجيعتها فى عروستها الشابة، فشجرة السرو شجرة نضرة مثل المقبورة أسفلها، كما أنها من الأشجار التى تزرع فى الجبانات حتى تغطى رائحتها النفاذة على الروائح المنبعثة من جثث الموتى.

◄ اقرأ أيضًا | حكايات| «شريك ليس به نبض».. فتاة تجد الحب بين أحضان جثث الموتى

عن هذه الشجرة تقول الدكتورة سعاد ماهر، فى كتابها «الخزف التركى ` مقام خاص عند الأتراك»، إنها رمز الخلود فى عقيدتهم وذلك لدوام خضرة أوراقها فى كل فصول السنة، وهى بذلك تعبر عن الحياة المتجددة الخالدة، ومن ثم نشأ تقديس الأتراك للون الأخضر، ولهذا السبب أكثر الفنانون من رسم هذه الشجرة فى زخرفة الأجزاء المقدسة من المبانى والعمائر كالمحاريب والميضات، كما رسموها على سجاجيد الصلاة وشواهد القبور، والشجرة هنا تتكون من ثلاثة أجزاء رئيسية هى «الساق والفروع والأوراق».

وبخصوص الترميم، يقول الدكتور إبراهيم حجاجي، إن الترميم الذى حدث لقبة رقية دودو هو علاج وصيانة للأثر دون أن يفقد قيمته الأثرية، ومن أهم شروط الترميم هو متابعة الأثر بعد ترميمه، وقد طبقنا ذلك مع البعثة الإيطالية أثناء ترميم التكية المولوية بشارع السيوفية، وهو على مقربة من قبة رقية دودو، ومازلنا نتابعه حتى الآن.

من جانبه، قال الدكتور مصطفى وزيري، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، إن عملية فك القبة من موقعها الأصلي، وإعادة تركيبها وترميمها بموقعها الجديد، على بعد 30 مترا، استغرق 3 أشهر من العمل الشاق والجاد، وذلك لحمايتها والحفاظ عليها من المياه الجوفية التى غمرت جزءا منها ونمو وانتشار نبات الهيش حولها.

وأكد وزيري، أنه قبل أعمال الفك والنقل وإعادة التركيب قام فريق العمل بإجراء الدراسات اللازمة، ومعالجة التربة فى الموقع الذى تم تخصيصه لإعادة تركيب القبة، بما يضمن سلامتها والحفاظ عليها، مثمناً المجهودات التى بذلها فريق العمل لإنقاذ هذا الأثر الهام والحفاظ عليه، مشيرا إلى أن جميع الأعمال تمت بأيادٍ مصرية خالصة وبتمويل ذاتى من المجلس الأعلى للآثار. 

عاطف الدباح، المشرف على المكتب الفنى للأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، أكد أنه تم توثيق القبة وجميع عناصرها المعمارية قبل وبعد وأثناء أعمال الفك والتركيب، مشيرا إلى أن عملية نقل القبة ساهم فى إظهار لأول مرة الواجهات الأربعة الأصلية للقبة والتى لا يوجد أى تصوير لها سوى تلك الصورة الموجودة فى كتاب وصف مصر.

تم تسجيل قبة رقية دودو فى عداد الآثار الإسلامية عام 1951، وهى تقع فى عين الصيرة بمنطقة آثار الإمام الشافعي، ويعود تاريخ إنشائها إلى عام 1757، حيث أنشأتها السيدة بدوية بنت شاهين لابنتها رقية دودو بنت الأمير رضوان بك.

جاء تصميم القبة على الطراز العثمانى وهى عبارة عن قبة فوق أربعة عقود محمولة على أربعة أعمدة وتربط بين العقود روابط خشبية، يتوسطها مصطبة حجرية بها تركيبة رخامية مزخرفة وعليها كتابات دعائية للمتوفاة.

زُينت جدران المصطبة بنقوش وزخارف متنوعة، ويوجد عليها شاهدا قبر، الأول من الناحية الشرقية حفر عليه ثلاثة أسطر به عبارة التوحيد وآية قرآنية. أما الشاهد الثانى فيوجد بالناحية الغربية وحفر عليه خمسة أسطر عليه نفس العبارات. وبالأعمدة الأربعة كتابات تشتمل على أدعية واسم المتوفاة وتاريخ الوفاة.