د. هبة جمال الدين تكتب: الحلم ودراسة المستقبل

د. هبة جمال الدين
د. هبة جمال الدين

أن تكون حالما أمر ليس بالسهل فالباحث في أي حقل علمي خلاف حقل الدراسات المستقبلية، لا يشترط أن يكون حالما، أما المتخصص في حقل الدراسات المستقبلية هو حالم من الطراز الأول، لابد أن يكون قادرا علي التحليق عاليا في أفق أرحب بعنان السماء السبع ذو عقل ووجدان خارج السياق والممكن والمحتمل فهو يستهدف المفضل فلابد أن يكون فوق العادة خارج الصندوق، غير تقليدي كاسرا للقيود عابرا للحدود طائرا محلقا في سماء أرحب. 

والحلم هو جزء من الروح، التي تحلق عاليا لترسم بريشة المستقبل سيناريوهات الغد علي المدي الطويل ويا حبذا البعيد. فالأقتراب من الغد لتحسين التخطيط للمستقبل سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، مما يقتضي رصد التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع ؛ فهي الخيط التي يسترشد به الحالم ذو البصيرة، فلن يهدف فقط رصد مستقبل تلك التغيرات وأنما تغييرها أو التلاعب بها، وتقليل أثرها، لكن الأفضل رسم مستقبلك الخاص الذي ترغب فيه. فلا عجب من صياغة الولايات المتحدة لعالم ذو قيم أمريكية ومؤسسات مساندة علي الفكر والايديولوجية الأمريكية “مؤسسات برتون وودز” ليساعدها في بسط نفوذها وهيمنتها.
 فهل يمكن لنا أن نقتضي بذلك ، ونتغلب علي العقبات والتحديات ونرسم مستقبل مفضل ومرغوب أو علي الأقل نتأهب لذلك ؟، ونقلل من أثاره وتبعاته وتتكيف بقوة مع الغير مرغوب في ظل حالة عدم اليقين السائد في العالم ذو الوتيرة السريعة والمتلاحقة.؟

في الواقع تتوقف الإجابة علي قدر اهتمامنا بالغد ، ووجود الحالمين بالمستقبل. أي توفر الرغبة والأستعداد المؤسسي لها ووجود قوي بشرية قادرة علي الحلم. 

وحينما نتحدث عن دراسات المستقبل فعلينا أن نعي أنها نوعان ؛ منها التشاؤمية ومنها التفاؤلية ، فالأولي تهتم  بالوقوف علي المشكلات والكوارث والازمات التي لا توجد لها دراسات شافيه ؛ كتغير المناخ وخطر السلاح النووي وأزمات الطاقة وهنا تندرج أيضا بعض الرؤوي التشاؤمية حول مستقبل العالم والدراسات ما بعد الكولونية كدراسة مستقبل المنطقة وعلاقة الدول العربية بإسرائيل ومخططات سايكس بيكو الجديد ومن أبرز علماء الدراسات المستقبلية العرب في هذا المجال المفكر المغربي المهدي المنجرة وفي مقدمة الدراسات الحديثة في هذا الشأن دراسة الاتفاقات الإبراهيمية وما يسمي بالديانات الإبراهيمية وتداعياتها علي المنطقة واستشراف أثرها علي بقاء الدول وأدواتها الشبكية في الانتشار داخل المجتمعات العربية والاسلامية كدراسة الدبلوماسية الروحية والمشترك الابراهيمي كأول دراسة استشرافية في المنطقة العربية والعالم الإسلامي تتحدث عن خطر داهم يهدد مستقبل المنطقة ككل ونبهت العالم بالمخاطر المستقبلية الكامنة حول الإبراهيمية وأدواتها. 

أما الدراسات التفاؤلية فتستهدف الوقوف علي المستقبل المرغوب والقيم الايجابية التي نريد الوصول إليها أو بمعني أخر التي نرغب في أن يرتكز عليها العالم أو الدولة . وهنا أذكر أول دراسة أجراها قسم الدراسات المستقبلية في معهد التخطيط القومي حول مستقبل الاثار السياسية والاقتصادية علي مصر في ضوء مبادرة الحزام والطريق وكانت الدراسة الاولي في افريقيا والمنطقة العربية عام ٢٠١٧ وفقا لما ذكره الجانب الصيني حيث قدمت كبسولة من السياسات لصانع القرار حول تبعات المبادرة علي مصر وما هية سيناريوهات المستقبل وآثاره وكيفية تحويلها لفرصة . وكانت من ابرز تنبؤات الدراسة التي تحققت رغم تعجب الكثير منها ورفض البعض الاخر لها في ذلك الوقت التقارب السعودي الايراني بوساطة صينية حيث ذكرته الدراسة عام ٢٠١٧ وتخقق بالفعل عام ٢٠٢٣. وهذا هو جوهر دراسات المستقبل.

وتتعدد مناهج دراسة علم المستقبليات فمنها منهجيات تقييم التأثير التقني علي المجتمع عبر دراسة اثاره السياسية والاجتماعية والبيئة والاقتصادية وهنا كان اهتمام معهد التخطيط القومي بدراسة اثار تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني والتكنولوجيا الحيوية علي التنمية المستدامة وكذا دراسة تأثير الذكاء الاصطناعي علي أركان الدولة والأمن القومي كدراسة أولي من نوعها في هذا المجال حيث استشرفت أثار تكنولوجيات الثورة الصناعية الرابعة علي الشعب وسيادة الدولة والاقليم وطرحت سياسات لصانع القرار في هذا الشأن.
وتتعدد مناهج الدراسات المستقبلية ما بين المعرفية والتقنية التي ترتكز علي تعلم الآلة Machine learning والنماذج الرياضية .

ولا تنفي أحدهما الآخر وأنما تتكامل معا، فلا يمكن الاهتمام بالنماذج الاحصائية والرياضية، مع اغفال التحليل الكيفي والاستبصار المعرفي  الذي يعد حجر الزاوية في أيه دراسة مستقبلية فبدونه سيتغلب الذكاء الاصطناعي علي البحث العلمي البشري ويجعله تابعا مسيرا بدلا من أن يكون مبتكرا مبدعا.

حتي في ظل تطوير أحد النماذج لا يمكن أن يتحقق الهدف المنشود دون المتخصص في العلم الأصيل الذي يوجه إليه النموذج. 

فالعمل في الدراسات المستقبلية يحتاج أن يكون متعدد التخصصات ، فالدراسة المستقبلية عابرة للعلوم، قاطعة للحواجز المعرفية، فالخبير الاجتماعي عليه أن يفهم جوهر وفكر النموذج التقني، كي يمد خبير علم البيانات والاحصائي بالمتغيرات اللازمة في ضوء القضية محل الاهتمام، وبدوره التقني سيطبق النموذج ويقوم الخبراء بتنقيح النتائج. ورسم لوحة المستقبل المرغوب والممكن.

وإذا عندنا للسياق المصري والعربي، أستطيع أن أقول بقوة أننا نمتلك العديد من الحالمين أصحاب القدرة علي صياغة غد أفضل، كما نتطلع إليه جميعا. وهكذا قامت وتقوم الأمم والدول والحضارات فلنربي أبنائنا علي الحلم والسعي بكل السبل للوصول إليه وامتلاك القدرة ولنعلم أن الرسل والأنبياء واجهوا الصعاب لرسم مستقبل أفضل للبشرية وها نحن نقف لنقتدي بهم أملا في بناء غد أفضل.