«دار المسنين» قصة قصيرة للكاتب الدكتور صلاح البسيوني

صلاح البسيوني
صلاح البسيوني

 نظرت حولها في ذهول وهي تحاول أن تسترجع ساعاتها السابقة التي مرت أمام عينيها المخضبة بسحابة من الدموع تحجب الرؤية حتى لا تكاد أن ترى أصابع يدها ولربما حتى لا ترى حاضرها أو كيف يسدل الستار على غدها.

 

وما بين ظلال الدموع وظلال الذاكرة المتأرجحة وعقل لا يكاد يستوعب أحداث ساعات قلائل وكأنها دهر قد مضى أو كأنها قطار غاشم يقتحم حياتها بلا رحمة ليدوسها ويمزقها ويطحنها ويدمر بقاياها فترى نفسها تلك السيدة العجوز التي تبلغ من العمر الرابعة بعد السبعين وبضع شهور وهى ملقاة على نهاية سرير خشبي عتيق لا يكاد يتحمل وقفته فهي لا تشكل ثقلا عليه بجسدها النحيل وقد أبيض جلدها الذى هربت منه الدموية بعدما فقدت كساءه من اللحم والدهون وقد تكومت ملتصقة بالحائط الذى يسند عود السرير في وقفته متحديا الزمان وعفونة ورطوبة المكان .. وسرح بها العقل قليلا لترى نفسها عروس في ليلة زفافها مع أبو الأولاد.. وترى نفسها وهي تتلوى فوقه في لحظات خروج الأولاد إلى النور في رحلة الميلاد ومخاضها وكيف فاضت روح أبو الأولاد فوقه أيضا وعلى مخدته المتيبسة المتردية اليتيمة.

 

جال عقلها يستدعى لحظات الأمس البعيدة وكأنها تستدعيها كي تتمسك بها لعلها تشد عضدها حتى تقوى على تحمل الباقي من عمرها.. وتسمع صراخ حاد ينطلق من حنجرة زوجة أبنها الكبير التي تميزه لارتفاعه عن كل سكان الحي وهي تصرخ في زوجها تعنفه وتهاجمه وتمزقه بكلمات تأبى أذن الأم أن تستوعبها كما لم تستوعب أسبابها.. إلا أن الصراخ انتهى بعدما علا صوت الأبن الكبير قائلا ليحسم الأمر: خلاص أنا داخل لها أنهى الموضوع ده دلوقتي فورا وأخدها أوديها البيت..

وما أن انتهى الصراخ وقبل أن تستوعب الكلمات أو تتفهم مرادها يدخل الأبن الكبير الذي استمر معها في الشقة بعد وفاة زوجها.. ثم تزوج معها.. وأنجب بناته الثلاثة بين حيطانها.. وهي قد انطوت على نفسها في داخل أصغر غرفة بالشقة.. أصبحت هي دنياها الجديدة بعدما كبر بها العضم ومر قطار العمر ولم تعد تقوى على الحركة إلا للاستحمام أو غسيل ملابسها أو قضاء حاجتها وخدمة نفسها بنفسها.

 

تلاحقه بنظراتها وهو يتفحص بعينيه أركان الغرفة العارية من كل شيء إلا من سرير خشبي متهالك.. ودولاب خشبي فقد أبوابه وإن كانت ملقاة أمامه كي تشعرك بأهميتها.. يتحرك هنا وهناك في تردد.. ثم يمد يده فجأة ليسحب ملاءة السرير القديمة التي كانت تلتحفها لتقييها برد الشتاء بعدما تعذر إيجاد بطانية أو قطعة صوفية قديمة منذ أن استولى الأطفال على بطانيتها وتم سحبها إلى غرفتهم.. تحركت الأم العجوزة في رقدتها تتابعه دون أن تعترض أو تتساءل أو تمتعض ولكنها تابعت تحركه فقط لتجده قد ألقاها أرضا وفرد أركانها الأربعة بقدمية ويتجه إلى الدولاب الخشبي الذي فقد واجهته بعدما فقد المكان عائله بسنوات عجاف ليخرج من جانبه الأيمن بضع خرق بالية غاب لونها أو تعذر معرفة بدايتها ونهايتها ليخرج صوت الأم من داخلها متسائلة: بتلم ليه الهدمتين.. والطرحتين.. والشبشبين؟ ما تقول لي يا أبنى واخدنى فين؟ وتنبهت لجملته التي سمعتها قبل دخوله الغرفة حين قال (أخدها أوديها البيت) وفهمت أنها المراد بتلك الكلمات بعدما وجدته يجمع أشلاءها أو بقاياها أو ما يدل على وجودها.. واستكملت حديثها: على بيت جديد.. طيب ما أنا لي هنا بيت.. هو أنا يا أبني اشتكيت؟

 

نظر إليها كبيرها أو ابنها البكر أو الأكبر نظرة غضب كادت أن تسحق بقاياها الصامدة مع الزمن لولا أنها ازدادت انكماشا في ركنها بجوار الحائط بأخر السرير الخشبي المتهالك وخرج صوتها من بين ضلوعها في حشرجة تستعطفه: البيت ده أنا عشت فيه خمسين سنة .. معرفش غيره أي بيت.. أنا جيت عروسة صغيرة هنا.. وقعدت فيه لما انحنيت.. مين اللي قال أنا عايزه بيت؟  .

 

تحرك كبيرها وانحنى على الأرض بجوار السرير يجمع بعضا من شرائط الأدوية لأمراضها من سكر لضغط.. ومن آلام عظام لعلاج القلب.. مع زجاجات شراب للصدر والمعدة.. إلى قطرة.. ودهان للظهر والساقين.. ثم ألقى بهم على ملاءة السرير فوق الهدمتين.. والطرحتين.. والشبشبين.. وصوت زوجته يعلو من جديد بصراخها المعتاد تلومه من جلستها خارج الغرفة وتنبهه متحفزة قائلة: أنت وقفت ساكت ليه؟ خرست وضعفت ليه؟ ضحكت عليك بكلمتين ودمعتين.. وألا انكفيت على رجلها وبكيت.. عرفها أننا محتاجين المكان لأجل البنات.. والشقة كان لازم تسيبها لنا من زمان.. بس نقح علينا عرق الحنان.. والوقت ده عدى وهان.. وهي واخده لوحدها ربع المكان.. أوضة ليها لوحدها وأنا وأنت والتلات بنات لينا أوضتين .. شوفت الزمان؟  عدت سنين ساكتين ومكفيين وكفاية كده تعب السنين.. تسيب المكان لغيرها بقى وتروح دار مسنين.

 

تنحني الأم العجوز على يد أبنها الكبير.. تقبض عليها بأصابعها الضعيفة محاولة الاستقواء بها كي تصلب عودها أو ربما كي تتكئ عليها منعا لسقوطها فتخذلها وتسقط أرضا في آه تتردد صداها بين جنبات حائط الغرفة الأصم الصامت وتمسح بيدها بلاط الأرض وهي تقول: أسأل بلاط الأرض.. وتنظر خلفها مشيرة إلى حائط الغرفة وتستكمل: وأسأل كل حيط.. مش عايزه غيره أي بيت.. أنا عشت يا أبني سنين هنا.. وأتمنى أموت برضه هنا.. أفتح عينيا كل يوم وأقفل عينا كل يوم.. على فرشتي ومخدتي والبطانية واللحاف .. على أيد أبوك بتضمني في صورة الزفاف.. تدفي قلبي وتحضنه في سنين عجاف.

 

ينظر إليها بغيظ مكتوم وهو يستمر في جمع بقايا قطع متسخة ملقاة تحت السرير في انتظار أن تستجمع بعض من قواها كي تنتقل إلى حوض الحمام لغسيلها وتركها على حرف السرير الخشبي حتى تجف قبل أن تعيد ارتدائها.. وهو في بحثه عيناه تمسح المكان مرارا وتكرارا لجمع ما يمكن أن يشير إلى سابق وجودها بالمكان ثم يلقيه فوق الهدمتين.. والطرحتين.. والشبشبين.. وأشرطة الأدوية.. وزجاجات الشراب.. وقطرة العيون.. ومرهم العظام.. فوق ملاءة السرير الملقاة على الأرض.. ثم ينحني أسفل السرير في بحثه بعدما فشلت عيناه في التقاط أي قطع يضيفها إلى البقايا .

 

تميل عليه أمه في سقطتها أرضا وتمسك يده وهي تهمس في تضرع: في الأوضة دي أنا لسه عايشه وأيا أبوك عمري اللي فات.. أصل الحبايب لو سابوك بيعيشوا فيك بالذكريات.. خلينى يا أبني وأيا أبوك أصحى وأبات.. وأشم ريحته في الحاجات.. وأعيش معاه باقي الساعات.. يسحب يده في عصبية وتوتر وعيناه تطلق نظرات نارية غاضبة قاسية قائلا: أبويا أيه؟ أنتي لسه عايشه في الزمن اللي فات.. أصحى فوقي أبويا مات من زمان.. أبويا مات.. بلاش تعيشي الوهم تحت أسم الذكريات.. بلاش توقفي الساعات.. وتحبسينا في اللي فات.. خلينا نربي البنات.. واللي فات يا أمه مات.. وأيه كمان.. أبويا مات.. سمعتينى يا أم الأولاد.. أبويا مات.. أبويا أيه؟ أبويا مااااات .

 

يتهدج صوتها في رعشة كما كان جسدها ينتفض في رعشته من الضعف والهزال والأمراض وايضا قلة الحيلة قائلة: مين اللي قال إنه مات؟ لسه بدلته جوه الدولاب.. جنب السرير أخر كتاب.. نضارته أهي.. وعبايته أهي.. ولسه سجادة الصلاة والسبحة فوقها منورة.. واعتدلت في انحنائها حتى لامس ظهرها الحائط البارد كبرد القلوب الحجرية والنفوس البربرية الغجرية وهي تستكمل رجائها: ولسه بسمع ضحكته وسط السكات.. وأنا عايشه يا أبني بحاجات ابوك متونسة .. وبدخلتك علية متونسة .. وأنا عارفه يا أبني إن أخدتني البيت الجديد.. راح أتنسى.

 

أزاحها من طريقه بعدما تنبه من كلامها إلى بدلة أبوه اليتيمة التي كان يحضر بها مناسبات أهل الحي في السراء والضراء كعادة الناس الطيبين حينما كانوا متواجدين ومتكاتفين ومتكافلين.. وأزاح درفة الدولاب من أمامه ومد يده في ظلمته لتخرج منها البدلة اليتيمة بوحدتها واليتيمة بفقدان صاحبها.. ويلقيها فوق الهدمتين.. والطرحتين.. والشبشبين.. ومجموعة أشرطة الدواء.. وزجاجات الشراب.. وقطرة العيون.. ومرهم العظام.. والخرق المتسخة.. ثم يمد يده مرة أخرى ليخرج قطعة من القماش البالي كان يطلق عليها فيما مضى أسم العباية حيث كان صاحبها يرتديها كي تضفي عليه بعض الوقار أمام الناس وفى الحقيقة كنت تحجب الرؤيا كي لا يلحظ أحد حاله الملابس البالية أسفلها صيانة لوقار صاحبها ومكانته بين الناس.. والتقطت يداه في بحثها نظارة من البلاستيك الأسود السميك وكتاب تمزق غلافه وتساقطت أوراقه بعدما طالتها يد الزمن فاصفرت وأهلكتها الرطوبة والأتربة.. وسبحة مئوية الحبات كانت هديته من أحد سكان الحي عند عودته من الحج مع سجادة للصلاة ضاعت معالمها كما ضاعت من قبل ألوانها واختفت.. وقذفهم أرضا فوق.. الهدمتين.. والطرحتين.. والشبشبين.. وأشرطة العلاج.. وزجاجات الدواء.. وقطرة العيون.. ومرهم العظام.. والخرق المتسخة.. والبدلة والعباية.. ويقف ينظر للمكان يحاول أن يجد فيه ما يمكن جمعه أو أزالته من المكان.

 

يعلو صراخ الزوجة من مكانها خارج الغرفة تصيح في زوجها: سكت ليه؟ قلبك حن وألا أيه؟ مستني منها تأني أيه؟ هي العيال ما لهاش مكان في بيت أبوها يعنى؟ والا هي مش عاوزه تسيب مكان لغيرها؟ كفاية كده كتير عليها.. انتفضت العجوز محاولة استجماع طاقتها كي تخرج الكلمات من أعماقها وهي تمسك بقدم الأبن الكبير تحتضنها وتستعطفها في جلستها قائلة: أن كنت محتاج الوسع لأجل العيال.. هات العيال.. أنا عندي يا أبنى سرير كبير ها أرقد على حرف السرير.. وأن كنت محتاج السرير.. خد السرير.. أن شاء لله أنام فوق الحصير.. لكن خلينى أنام وسط الأمان.. خلينى يا أبنى وسطهم..  قدرني واحده منهم.. أصحى وأبات على حسهم باقي الزمان..  وما هوش كتير.. صدقني يا أبنى ما هوش كتير.. أنا مش ها اعيش قد اللي عيشته.. ولا نفسي أعيش بعد اللي شوفته.. كمل جميلك وأستر الباقي في حياتي.. أنا عمرى يا أبنى قصاد عينيك ما فرطت في أمي أو حماتي.. أن كان دا منى في يوم حصل.. أنا كنت أقول بأخذ جزاتى .

 

سحب قدمه من بين يديها في عنف لتصطدم بوجهها وتشق شفتيها وتدمى أسنانها.. لتخرج قطرة يتيمة من دماء عز وجودها تلعقها بلسانها وهي تمسح بكفها وتستند على عامود السرير الخشبي في محاولة للوقوف بعدما خانتها قدميها في وقت الشدة كما خانها أبنها في وقت الحاجة.. واستقام عودها بصعوبة ومعاناة في محاولة أخيرة للاستجداء لعل كلماتها تنبت في القلوب الصخرية أو تنير في الصدور المظلمة وقالت: ما تقول يا أبنى أيه خلاني أهون عليك.. وساحبني بالهدمتين رايح تسلمني بأيديك.. فرطت في أمك؟ طيب قول لي ليه؟ أنا عمري ما فرطت فيك.. وأن كان على ضيق المكان.. ما أنا قلت لك خد السرير.. وأن كان على ضيق المعيشة.. أبوك سايب لي معاش كبير.. قسمته يا أبنى من زمان.. النص ليك.. والربع مصروف للعيال.. والباقي يا أبنى للدوا..  لكن خلاص وحياة عنيك ما عاد يلزمني الدوا.. خد المعاش.. كل المعاش.. لكن بلاش.. أحسن ربايتى فيك راحت بلاش.

 

وانهارت في البكاء بدموع لم تعرف بوجود مجرى لها من قبل وأنينها يمزق صدرها وهى مستسلمة ليده تسحبها إلى خارج الغرفة.. إلى خارج الشقة.. إلى خارج البيت الحجري الأصفر في حي الدرب الأحمر العتيق.. إلى حيث اللا مكان و اللا زمان.. لتفقد الوعي وسط الطريق.

 

يمر الوقت في تيهها ثقيلا كثقل عمرها الذي ضاع تحت أقدام أبنها البكر الكبير لتشعر بقطرات ماء باردة تصب على وجهها فتنتفض وسيدة كبيرة الحجم كثيرة الشحم تميل عليها بابتسامة صفراء خلت من الحياة قائلة لها: أهلا بك حبيبتي، في بيتك الجديد.. دار المسنين.