خارج النص

أوبنهايمر ... فن صناعة التعاطف مع القاتل؟!

د. أسامة السعيد
د. أسامة السعيد

«العبقرية ليست ضمانة للحكمة» .. مقولة تأتى على لسان أحد أبطال فيلم «أوبنهايمر» الذى يعرض حاليا فى معظم دور العرض بالعالم ويحقق إيرادات قياسية.

الفيلم يروى قصة «أبو القنبلة الذرية»، عالم الفيزياء الأمريكى روبرت أوبنهايمر، والذى قادت أبحاثه ورئاسته لفريق عمل من نحو 4 آلاف عالم ومتخصص لاختراع أول قنبلة ذرية فى التاريخ، والتى ألقيت منها نسختان على هيروشيما ونجازاكى اليابانيتين لتنهى الحرب العالمية الثانية.

الفيلم الذى تتجاوز مدته 150 دقيقة، يضع مشاهده منذ دقائقه الأولى فى مواجهة عدة أسئلة جوهرية من عينة : هل الأولوية للعلم أم للأخلاق؟ وهل يتحمل العالِم المسئولية عن نتائج أعماله، أم أنه برئ من الاستخدام غير الإنسانى لمخترعاته؟

فى لحظة يجعلك الفيلم تصدق أن أوبنهايمر مجرد عالم عبقري، كل همه استكمال دراساته فى الفيزياء الكمية، إلى أن تلتقط المؤسسة العسكرية الأمريكية نجاح الألمان فى تطوير تقنية الانشطار النووي، وهو ما قد يقود النازيين لاختراع قنبلة مدمرة تغير مسار الحرب آنذاك، هنا يجد أوبنهايمر نفسه أمام لحظة تغير مصيره من مجرد باحث حبيس معمله وقاعات المحاضرات، إلى رجل يمكن أن يحول أبحاثه النظرية إلى تطبيق عملى يطلق ثورة علمية، كما يمكنه إشعال سباق تسلح يقود إلى تدمير العالم!

هنا تنتصرالعبقرية على الحكمة، ينساق العالِم وراء مجده الشخصي، يبنى مدينة فى الصحراء يجلب إليها كل من يحتاج، وهنا تتغافل أمريكا وأجهزتها الأمنية عن ماضيه الشيوعى وتغلب مصلحتها على هواجسها التى ستتجدد لاحقا فى صورة محاكمة سياسية وأمنية قاسية للرجل، الذى منح أمريكا الأداة لحسم الحرب وبناء إمبراطوريتها العالمية، واتهامه بأنه كان جاسوسا سوفيتيا!!

فى بعض اللحظات يجعلك الفيلم تفرح بنجاح أول نموذج للقنبلة فى صحراء «سان آلاموس»، تكاد الدموع تنهمر منك فرحا وأنت تتابع ابتهاج فريق صناعة القنبلة من العلماء والعسكريين بما أنجزوه، واستعجال القائمين على المشروع لإنتاج قنبلتين لإلقائهما على عينة مختارة من المدن الأمريكية، وتقف أمام مشهد يبدو عبثيا لكنه يكشف جوهر المأساة عندما يجتمع وزير الحرب الأمريكى مع أركان وزارته وفريق صنع القنبلة لاختيار أين سيلقون القنبلتين من بين قائمة تضم 12 مدينة يابانية، لكن وزير الحرب يستبعد مدينة «كيوتو» ذات الأهمية التاريخية لليابانيين، والأهم لأنه قضى فيها وزوجته شهر العسل!!

الفيلم لا يخلو من لحظات إنسانية وإحساس بالندم من جانب أوبنهايمر على نحو 250 ألف يابانى من المدنيين لقوا حتفهم فى الأيام الأولى لإلقاء قنبلتى هيروشيما ونجازاكي، هذا بخلاف التأثيرات بعيدة المدى للتلوث الإشعاعي، وإطلاق المارد النووى من القمقم، إذ يحاول أوبنهايمر تقديم نفسه على أنه مجرد باحث أتم تجربة علمية، لكن الآخرين - فى إشارة إلى الجيش والإدارة الأمريكية- هم من استغلوا اختراعه عسكريا، على غرار ما حدث مع ألفريد نوبل مخترع الديناميت.

أخطر ما فى الفيلم حقا أنه يجعلك تتعاطف مع القاتل، وتفرح لانتصار أمريكا الملوث بدماء الملايين، وهى صناعة قديمة تجيدها السينما وآلة الدعاية الأمريكية باحترافية شديدة.

اليوم عندما نشاهد الفيلم، بينما نقف على أعتاب خطر حرب نووية محتملة، تتجدد تلك الأسئلة الوجودية، والتى ستظل ربما بغير إجابة، أيهما أحق أن نعطيه الأولوية : العبقرية أم الحكمة؟ 

الأزمة الحقيقية أن من يقودون العالم اليوم يزعمون اتصافهم بالأولى، بينما يؤكد الواقع افتقادهم للثانية، وهو ما يجعلنا جميعا ندفع الثمن ونترقب الكارثة التى ربما تحمل بذور فناء العالم الذى نعرفه .. وربنا يستر!!