مئة سنة غُنا .. والمنتوج الجديد .. والجمهورية الجديدة

إلهام سيف الدولة حمدان
إلهام سيف الدولة حمدان

‭   ‬جميل‭ ‬أن‭ ‬تهتم‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬بالتراث‭ ‬المصري‭ ‬الأصيل‭  ‬في‭ ‬مجال‭ ‬“الأغنية”‭ ‬؛‭ ‬وجميل‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬وزيرة‭ ‬الثقافة‭ ‬د‭.‬نيفين‭ ‬الكيلاني‭ ‬ـ‭ ‬مع‭ ‬كامل‭ ‬احترامي‭ ‬وتقديري‭ ‬لاجتهادها‭ ‬ورؤيتها‭ ‬ورؤاها‭ ‬ـ‭  ‬بالإعلان‭ ‬عن‭ : ‬“‭ .. ‬تبني‭ ‬مشروع‭ ‬“100‭ ‬سنة‭ ‬غنا”،‭ ‬الذي‭ ‬تقدم‭ ‬به‭ ‬مطرب‭ ‬مصري؛‭ ‬وتصريح‭ ‬الوزارة‭ ‬الموضح‭ ‬لسياسة‭ ‬مرسومة‭ ‬تتبعها‭ ‬بشأن‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬التراث‭ : ‬

“إن‭ ‬الوزارة‭ ‬منفتحة‭ ‬على‭ ‬التعاون‭ ‬مع‭ ‬كافة‭ ‬المشاريع‭ ‬الجادة‭ ‬التي‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬تراثنا‭ ‬الفني،‭ ‬واكتشاف‭ ‬المواهب‭ ‬بجميع‭ ‬المجالات‭ ‬؛‭ ‬والاستعداد‭ ‬لتقديم‭ ‬كافة‭ ‬أوجه‭ ‬الدعم‭ ‬للمشروع،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مسارح‭ ‬وفناني‭ ‬دار‭ ‬الأوبرا‭ ‬المصرية،‭ ‬ليخرج‭ ‬بالصورة‭ ‬التي‭ ‬تليق‭ ‬بإرثنا‭ ‬الغنائي‭ ‬“‭ .‬

‭   ‬وصحيح‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المشروع‭ ‬ـ‭ ‬كما‭ ‬قالوا‭ ‬ـ‭  ‬سيكون‭ ‬بوابة‭ ‬لتعريف‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة‭ ‬بالطرب‭ ‬المصري‭ ‬الأصيل،‭ ‬بطريقة‭ ‬تتناسب‭ ‬مع‭ ‬العصر‭ ‬الحالي،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المشروع‭ ‬لإحياء‭ ‬كنوز‭ ‬غنائية‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬أوشكت‭ ‬على‭ ‬الاندثار‭ ‬لعظماء‭ ‬التلحين‭ ‬والغناء‭ ‬بمصر،‭ ‬وسيتم‭ ‬توزيعها‭ ‬بطريقة‭ ‬حديثة‭ ‬بمصاحبة‭ ‬أوركسترا‭ ‬أوبرا‭ ‬القاهرة‭ .‬

‭     ‬ولكن‭ ‬ـ‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظري‭ ‬ـ‭ ‬أسأل‭ : ‬ماالعائد‭ ‬الذي‭ ‬سيقدمه‭ ‬هذا‭ ‬المشروع‭ ‬بإعادة‭ ‬التوزيع‭ ‬الموسيقي‭ ‬لأغنيات‭ ‬الرواد‭  ‬من‭ ‬“100‭ ‬سنة‭ ‬“‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬عباس‭ ‬البليدي‭ ‬وجلال‭ ‬حرب‭ ‬وكارم‭ ‬محمود‭ ‬ومحمد‭ ‬عبد‭ ‬الوهاب‭ ‬ومحمد‭ ‬قنديل‭ ‬ومحمد‭ ‬فوزي؛‭ ‬ومحمد‭ ‬بسيوني‭ ‬ـ‭ ‬وعلى‭ ‬رأي‭ ‬الفنان‭ ‬عادل‭ ‬إمام‭ ‬ـ‭ : ‬مين‭ ‬محمد‭ ‬بسيوني‭ ‬ده‭ ‬؟‭  ‬فإذا‭ ‬كنا‭ ‬نستعيد‭ ‬مايسمى‭ ‬بالتراث‭ ‬الغنائي‭  ‬الذي‭ ‬أنتجته‭ ‬وأبدعته‭ ‬قرائح‭ ‬الفنانين‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الواحد‭ ‬والعشرين؛‭  ‬فأين‭ ‬المنتوج‭ ‬“‭ ‬الجديد‭ ‬“‭ ‬المُبهر‭ ‬الذي‭ ‬ـ‭ ‬من‭ ‬المُفترض‭ ‬ـ‭  ‬سيحتفي‭ ‬به‭ ‬المطربون‭ ‬الأحياء‭  ‬في‭ ‬الثلث‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬والعشرين‭ ‬؟‭  ‬

‭     ‬إننا‭ ‬بهذا‭ ‬المشروع‭ ‬وتكلفته‭ ‬الباهظة‭ ‬من‭ ‬حيث‭  ‬إعادة‭ ‬التوزيع‭ ‬الموسيقي‭ ‬والأوركسترالي‭ ‬؛‭ ‬والتدريب‭ ‬المستمر‭ ‬للعازفين‭ ‬الأكفاء؛‭ ‬وتجهيز‭ ‬النوتة‭ ‬الموسيقية‭ ‬لهذه‭ ‬المنتوجات‭ ‬القديمة؛‭ ‬كمن‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭  ‬يسكب‭  ‬محتوى‭ ‬“‭ ‬زجاجات‭ ‬المياه‭ ‬المعدنية‭ ‬“‭ ‬في‭ ‬النيل‭ ‬والبحر‭ ‬والمحيط؛‭  ‬لتحسين‭ ‬الجودة‭ ‬في‭ ‬المياه‭ ‬وما‭  ‬قد‭ ‬تحتويه‭ ‬من‭ ‬شوائب‭ !   ‬فهل‭ ‬هذا‭ ‬يُجدي‭ ‬؟‭ ‬

‭     ‬وأتعجب‭ ‬ـ‭ ‬أشد‭ ‬العحب‭ ‬ـ‭ ‬من‭ ‬“الخناقة”‭ ‬الدائرة‭ ‬الآن‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭  ‬وصفحات‭ ‬المجلات‭ ‬الفنية‭ ‬؛‭ ‬بين‭ ‬بعض‭ ‬المطربين‭ ‬ـ‭ ‬مع‭ ‬تقديري‭ ‬لجهودهم‭ ‬الرائعة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الأغنية‭ ‬‭ ‬منذ‭ ‬ظهورهم‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬الفنية‭ ‬ـ‭ ‬الذين‭ ‬يحاولون‭ ‬“اختطاف”‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬بحجة‭ ‬إعادة‭ ‬التوزيع‭ ‬الموسيقي‭ . ‬وينكرون‭ ‬اتهامهم‭ ‬بالإفلاس‭ ‬الفني‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬الحيوي‭ ‬؛‭ ‬بل‭ ‬ينكرون‭  ‬طموحهم‭  ‬وتطلعاتهم‭ ‬في‭ ‬العوائد‭ ‬المالية‭ ‬الكبيرة‭ ‬جراء‭  ‬استغلال‭ ‬هذا‭ ‬المشروع‭ .‬

‭     ‬أليس‭ ‬من‭ ‬الأجدى‭ ‬والأنفع‭ ‬هو‭ ‬التفرغ‭ ‬لإنتاج‭ ‬الجديد‭ ‬؟‭ ‬بلى‭ .. ‬بالطبع؛‭ ‬ولكنه‭ ‬“الاستسهال”‭ ‬للتعامل‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬أنتجته‭ ‬قرائح‭ ‬رواد‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬الأصيل‭ ‬النابع‭ ‬من‭ ‬خلاصة‭ ‬مشاعرالشارع‭ ‬المصري‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬التحولات‭ ‬الثورية‭ ‬منذ‭ ‬خمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي؛‭ ‬وهو‭ ‬الإنتاج‭ ‬المضفور‭ ‬بروح‭ ‬وروائح‭ ‬ماأطلقنا‭  ‬عليه‭ ‬“‭ ‬الزمن‭ ‬الجميل‭ ‬“‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬العاطفية‭ ‬الثورية‭ ‬الوطنية‭ ‬وروح‭ ‬الحارة‭ ‬المصرية‭ ‬التي‭ ‬ينطلق‭ ‬بين‭ ‬جنباتها‭ ‬بخور‭ ‬الحب‭ ‬والألفة‭ ‬والإحساس‭ ‬الجمعي؛‭ ‬هذا‭ ‬الإحساس‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يختلف‭ ‬أحد‭ ‬على‭ ‬جمالياته‭ ‬وروعته‭ !   ‬ويتجدد‭ ‬السؤال‭:‬أين‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬ستتركونه‭ ‬للأجيال‭ ‬القادمة‭ ‬أيها‭ ‬السادة‭ ‬؟‭!‬

ظني‭ ‬الذي‭ ‬يصل‭ ‬مبلغ‭ ‬اليقين‭ ‬أن‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة‭ ‬من‭ ‬فناني‭ ‬الأغنية؛‭ ‬لديهم‭ ‬فرصة‭ ‬رائعة‭ ‬بتناول‭ ‬مانحن‭ ‬فيه‭ ‬الآن‭ ‬من‭ ‬نهضة‭  ‬قوية‭ ‬مصاحبة‭ ‬لخطوات‭ ‬“الجمهورية‭ ‬الجديدة”‭ ‬فمشروعاتها‭ ‬القومية‭ ‬العملاقة‭  ‬في‭ ‬كل‭ ‬أنحاء‭ ‬مصرنا‭ ‬المحروسة؛‭ ‬مثلما‭ ‬فعل‭ ‬مطربي‭ ‬الزمن‭ ‬الجميل؛‭ ‬وياتي‭ ‬على‭ ‬رأسهم‭ ‬المطرب‭ ‬“عبد‭ ‬الحليم‭ ‬حافظ”‭ ‬الذي‭ ‬أنشد‭ ‬كلمات‭  ‬الشاعر”صلاح‭ ‬جاهين”‭ ‬عن‭ ‬السد‭ ‬العالي‭ ‬؛‭ ‬والمطرب‭ ‬“عبد‭ ‬اللطيف‭ ‬التلباني‭ ‬واغنيته‭ ‬الشهيرة‭  ‬عن‭ ‬“برج‭ ‬الجزيرة‭ ‬“‭ ‬و‭ ‬“‭ ‬مداخن‭ ‬مصانع‭ ‬حلوان”‭ ‬و”النهضة‭ ‬الكبرى”‭ ‬؛‭ ‬ولا‭ ‬ننسي‭ ‬المطرب‭ ‬“ماهر‭ ‬العطار”‭ ‬الذي‭ ‬أطرب‭ ‬المجتمع‭  ‬بأغنيته‭ ‬“‭ ‬ياما‭ ‬زقزق‭ ‬الإمري‭ ‬على‭ ‬ورق‭ ‬الليمون‭ ‬“؛‭ ‬التي‭ ‬تحكي‭ ‬عن‭ ‬التآلف‭ ‬والحب‭ ‬بين‭ ‬أفراد‭ ‬الشعب‭ ‬من‭ ‬المنزلة‭ ‬إلى‭ ‬سنديون؛‭ ‬وكانت‭ ‬صالة‭ ‬المسرح‭ ‬تضج‭ ‬بالتصفيق‭ ‬والهتاف‭ ‬بحياة‭ ‬مصر‭ ‬بكل‭ ‬الحب‭ ‬والنشوة‭  ‬والبهجة‭ .  ‬

‭  ‬وخلاصة‭ ‬القول‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشان‭ ‬أقول‭ ‬لمن‭ ‬يهمه‭ ‬الأمر‭ : ‬أطلقوا‭ ‬الدعوة‭  ‬للشعراء‭ ‬القدامى‭ ‬والجُدد‭  ‬والملحنين‭ ‬؛‭ ‬لتقديم‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الاغنية‭ ‬التي‭ ‬تستطيع‭ ‬الصمود‭ ‬أمام‭ ‬التغيرات‭ ‬المتسارعة‭  ‬في‭ ‬المجتمع؛‭ ‬ومواكبة‭ ‬مايطمح‭ ‬إليه‭ ‬المستمع‭ ‬الجديد‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬الشباب‭ ‬والشابات؛‭ ‬ولا‭ ‬مانع‭ ‬من‭ ‬الإعلان‭ ‬عن‭ ‬“مسابقة‭ ‬فنية‭ ‬تحت‭ ‬إشراف‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة؛‭ ‬لإنتاج‭ ‬الكلمات‭ ‬والموسيقا؛‭ ‬وتدعمها‭  ‬بالجوائز‭ ‬المادية‭ ‬الكبيرة؛‭ ‬التي‭ ‬تشحذ‭ ‬قرائح‭ ‬الفنانين‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬والملحنين؛‭ ‬فالإنتاج‭ ‬الفني‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬فترات‭ ‬التفرغ‭ ‬للإنتاج‭ ‬الجاد‭ ‬الذي‭ ‬يبقى‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬الزمن؛‭ ‬والذي‭ ‬يكون‭ ‬شاهدًا‭ ‬على‭  ‬فترات‭ ‬التحول‭  ‬والنضال‭ ‬الثوري‭ ‬والمجتمعي‭ ‬لشعب‭ ‬مصرنا‭ ‬العظيم‭  . ‬

لذلك‭ ‬أجدني‭ ‬أناشد‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬ـ‭ ‬بصفتي‭ ‬الأكاديمية‭ ‬وتربيتي‭ ‬الموسيقية‭ ‬الفنية‭ ‬ـ‭ ‬أن‭ ‬تعلن‭ ‬الوزارة‭ ‬عن‭ ‬فتح‭ ‬حجرات‭ ‬“قصور‭ ‬الثقافة”‭ ‬ـ‭ ‬التي‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬الظلام‭ ‬ـ‭ ‬المنتشرة‭ ‬في‭ ‬طول‭ ‬البلاد‭ ‬وعرضها؛‭ ‬لإنشاء‭ ‬“‭ ‬الورش‭ ‬الفنية”‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬والسيناريو؛‭ ‬وتعليم‭ ‬الموسيقا‭ ‬؛‭ ‬ولا‭ ‬مانع‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬هذا‭ ‬تحت‭ ‬الإشراف‭ ‬الفني‭ ‬والإداري‭ ‬لكوادر‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬وأكاديمية‭ ‬الفنون‭ ‬؛‭ ‬وإعطاء‭ ‬الفرصة‭ ‬لكل‭ ‬العناصر‭ ‬الشابة‭ ‬المنتجة‭ ‬لكل‭ ‬أنواع‭ ‬الفنون،‭  ‬ويقينا‭ ‬سنكتشف‭ ‬وقتئذ‭ ‬المئات‭ ‬من‭ ‬العناصر‭ ‬الواعدة‭ ‬التي‭ ‬تنتظر‭ ‬الفرصة‭ ‬للإعلان‭ ‬عن‭ ‬موهبتها‭ ‬التي‭ ‬تكاد‭ ‬تموت‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬المنافسة‭ ‬لمن‭ ‬هم‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬؛‭ ‬بل‭ ‬يحاولون‭ ‬ـ‭ ‬مع‭ ‬الأسف‭  ‬ـ‭ ‬طمس‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يحاول‭ ‬الطفو‭ ‬على‭ ‬سطح‭ ‬نهر‭ ‬الحياة‭ ‬الفنية‭ . ‬

 

إنني‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬هذا‭ ‬القرار‭ ‬الحيوي‭ ‬الجريء‭ ‬معكم‭.. ‬حتى‭ ‬نتخلص‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬التخبط‭ ‬في‭  ‬جنبات‭ ‬الدوائر‭ ‬المغلقة‭ ‬؛ونعيد‭ ‬إحياء‭ ‬تراث‭ ‬التراث‭ ‬اللائق‭ ‬بجمهوريتنا‭ ‬الجديدة‭.‬

وكل‭ ‬مئة‭ ‬عام‭ ‬غناء‭ ‬وأنتم‭ ‬بخير‭ !‬


 

;