جميل أن تهتم وزارة الثقافة بالتراث المصري الأصيل في مجال “الأغنية” ؛ وجميل أن تقوم وزيرة الثقافة د.نيفين الكيلاني ـ مع كامل احترامي وتقديري لاجتهادها ورؤيتها ورؤاها ـ بالإعلان عن : “ .. تبني مشروع “100 سنة غنا”، الذي تقدم به مطرب مصري؛ وتصريح الوزارة الموضح لسياسة مرسومة تتبعها بشأن الحفاظ على التراث :
“إن الوزارة منفتحة على التعاون مع كافة المشاريع الجادة التي تهدف إلى الحفاظ على تراثنا الفني، واكتشاف المواهب بجميع المجالات ؛ والاستعداد لتقديم كافة أوجه الدعم للمشروع، من خلال مسارح وفناني دار الأوبرا المصرية، ليخرج بالصورة التي تليق بإرثنا الغنائي “ .
وصحيح أن هذا المشروع ـ كما قالوا ـ سيكون بوابة لتعريف الأجيال الجديدة بالطرب المصري الأصيل، بطريقة تتناسب مع العصر الحالي، وذلك من خلال المشروع لإحياء كنوز غنائية كانت قد أوشكت على الاندثار لعظماء التلحين والغناء بمصر، وسيتم توزيعها بطريقة حديثة بمصاحبة أوركسترا أوبرا القاهرة .
ولكن ـ من وجهة نظري ـ أسأل : ماالعائد الذي سيقدمه هذا المشروع بإعادة التوزيع الموسيقي لأغنيات الرواد من “100 سنة “ ابتداء من عباس البليدي وجلال حرب وكارم محمود ومحمد عبد الوهاب ومحمد قنديل ومحمد فوزي؛ ومحمد بسيوني ـ وعلى رأي الفنان عادل إمام ـ : مين محمد بسيوني ده ؟ فإذا كنا نستعيد مايسمى بالتراث الغنائي الذي أنتجته وأبدعته قرائح الفنانين في النصف الثاني من القرن الواحد والعشرين؛ فأين المنتوج “ الجديد “ المُبهر الذي ـ من المُفترض ـ سيحتفي به المطربون الأحياء في الثلث الأخير من القرن الثاني والعشرين ؟
إننا بهذا المشروع وتكلفته الباهظة من حيث إعادة التوزيع الموسيقي والأوركسترالي ؛ والتدريب المستمر للعازفين الأكفاء؛ وتجهيز النوتة الموسيقية لهذه المنتوجات القديمة؛ كمن يحاول أن يسكب محتوى “ زجاجات المياه المعدنية “ في النيل والبحر والمحيط؛ لتحسين الجودة في المياه وما قد تحتويه من شوائب ! فهل هذا يُجدي ؟
وأتعجب ـ أشد العحب ـ من “الخناقة” الدائرة الآن على صفحات التواصل الاجتماعي وصفحات المجلات الفنية ؛ بين بعض المطربين ـ مع تقديري لجهودهم الرائعة في مجال الأغنية منذ ظهورهم على الساحة الفنية ـ الذين يحاولون “اختطاف” هذا التراث بحجة إعادة التوزيع الموسيقي . وينكرون اتهامهم بالإفلاس الفني في هذا المجال الحيوي ؛ بل ينكرون طموحهم وتطلعاتهم في العوائد المالية الكبيرة جراء استغلال هذا المشروع .
أليس من الأجدى والأنفع هو التفرغ لإنتاج الجديد ؟ بلى .. بالطبع؛ ولكنه “الاستسهال” للتعامل مع ما أنتجته قرائح رواد هذا الفن الأصيل النابع من خلاصة مشاعرالشارع المصري في فترة التحولات الثورية منذ خمسينيات القرن الماضي؛ وهو الإنتاج المضفور بروح وروائح ماأطلقنا عليه “ الزمن الجميل “ من الناحية العاطفية الثورية الوطنية وروح الحارة المصرية التي ينطلق بين جنباتها بخور الحب والألفة والإحساس الجمعي؛ هذا الإحساس الذي لم يختلف أحد على جمالياته وروعته ! ويتجدد السؤال:أين الجديد الذي ستتركونه للأجيال القادمة أيها السادة ؟!
ظني الذي يصل مبلغ اليقين أن الأجيال الجديدة من فناني الأغنية؛ لديهم فرصة رائعة بتناول مانحن فيه الآن من نهضة قوية مصاحبة لخطوات “الجمهورية الجديدة” فمشروعاتها القومية العملاقة في كل أنحاء مصرنا المحروسة؛ مثلما فعل مطربي الزمن الجميل؛ وياتي على رأسهم المطرب “عبد الحليم حافظ” الذي أنشد كلمات الشاعر”صلاح جاهين” عن السد العالي ؛ والمطرب “عبد اللطيف التلباني واغنيته الشهيرة عن “برج الجزيرة “ و “ مداخن مصانع حلوان” و”النهضة الكبرى” ؛ ولا ننسي المطرب “ماهر العطار” الذي أطرب المجتمع بأغنيته “ ياما زقزق الإمري على ورق الليمون “؛ التي تحكي عن التآلف والحب بين أفراد الشعب من المنزلة إلى سنديون؛ وكانت صالة المسرح تضج بالتصفيق والهتاف بحياة مصر بكل الحب والنشوة والبهجة .
وخلاصة القول في هذا الشان أقول لمن يهمه الأمر : أطلقوا الدعوة للشعراء القدامى والجُدد والملحنين ؛ لتقديم الجديد في مجال الاغنية التي تستطيع الصمود أمام التغيرات المتسارعة في المجتمع؛ ومواكبة مايطمح إليه المستمع الجديد من جيل الشباب والشابات؛ ولا مانع من الإعلان عن “مسابقة فنية تحت إشراف وزارة الثقافة؛ لإنتاج الكلمات والموسيقا؛ وتدعمها بالجوائز المادية الكبيرة؛ التي تشحذ قرائح الفنانين من الشعراء والملحنين؛ فالإنتاج الفني يحتاج إلى الكثير من فترات التفرغ للإنتاج الجاد الذي يبقى على مر الزمن؛ والذي يكون شاهدًا على فترات التحول والنضال الثوري والمجتمعي لشعب مصرنا العظيم .
لذلك أجدني أناشد وزارة الثقافة ـ بصفتي الأكاديمية وتربيتي الموسيقية الفنية ـ أن تعلن الوزارة عن فتح حجرات “قصور الثقافة” ـ التي تعاني من الظلام ـ المنتشرة في طول البلاد وعرضها؛ لإنشاء “ الورش الفنية” في الشعر والسيناريو؛ وتعليم الموسيقا ؛ ولا مانع أن يتم هذا تحت الإشراف الفني والإداري لكوادر وزارة الثقافة وأكاديمية الفنون ؛ وإعطاء الفرصة لكل العناصر الشابة المنتجة لكل أنواع الفنون، ويقينا سنكتشف وقتئذ المئات من العناصر الواعدة التي تنتظر الفرصة للإعلان عن موهبتها التي تكاد تموت تحت وطأة المنافسة لمن هم على الساحة ؛ بل يحاولون ـ مع الأسف ـ طمس كل من يحاول الطفو على سطح نهر الحياة الفنية .
إنني في انتظار هذا القرار الحيوي الجريء معكم.. حتى نتخلص من حالة التخبط في جنبات الدوائر المغلقة ؛ونعيد إحياء تراث التراث اللائق بجمهوريتنا الجديدة.
وكل مئة عام غناء وأنتم بخير !