حوار: محمد الشربينى شبانة : أشرف العشماوى.. الرواية محاكمة عادلة للتاريخ

أشرف العشماوى
أشرف العشماوى

فى أحدث أعماله "السرعة القصوى صفر" يعود الروائى أشرف العشماوى مجددا إلى التاريخ بحثا عن الجذور الحقيقية للأزمات والتغيرات المجتمعية الكبرى التى تحدث فى العصور الحالية،يقول: إننا لا نقرأ التاريخ، أو ربما نقرأ بغير وعى واهتمام، لذا يحاول من خلال أعماله الروائية الغوص فى التاريخ ليشير إلى أحداثٍ وشخصيات ربما تفسر ما حدث لنا فى المائتى سنة الماضية، ولماذا وصلنا إلى ما نحن عليه، وهل المقدمات تؤدى دائما إلى النتائج، ولماذا نقول كنا أفضل فى الماضى؟
أشرف العشماوى كاتب له بصمة خاصة، انضم منذ روايته الأولى إلى قوائم الـ«بيست سيللر»، ربما لأن أعماله لا تشبه غيرها، فهى مزيج من التشويق والسرد الذى يدفع إلى إعمال الفكر بحثا عمّا وراء السطور، وهى معادلة صعبة، قلّما ينجح الروائيون فى الإمساك بطرفيها بالشكل المطلوب،«السرعة القصوى صفر» هى الرواية العاشرة فى مسيرة العشماوى، هنا نتحدث عنها وعن مشروعه الروائى بشكل عام.

«شكرى» شخصية الرواية بامتياز... هل استلهمتها من شخصية حقيقية؟
دعنى فى البداية أوضح أن الشخصية الروائية فى العموم هى حاصل جَمع مجموعة من الشخصيات الحقيقية مع خيال المؤلف، لتكون النتيجة هى شخصية الرواية التى يراها القارئ مُجسدة أمامه، رواية «السرعة القصوى صفر» مستوحاة من بعض أحداث حقيقية، لكن الخيال يشكل الجانب الأكبر بالطبع، وجميع الشخصيات الرئيسية مٌتخيلة بالكامل، وبالنسبة لشخصية «شكري» فكان هناك ب القاهرة فى الأربعينيات والخمسينيات شخصيات فعلت شيئا مشابها لما فعله «شكرى تاج الدين» بطل روايتى مثل يونس البحرى الذى هرب إلى برلين وأسس إذاعة ليهاجم مصر وعبد الناصر، وأظن أن أحمد ابو الفتح فعَل شيئا مشابها من سويسرا، وبالطبع هناك غيرهم، وقُبِض عليهم وقتها، ومن حاصل هؤلاء تشكلت عندى شخصية «شكرى» وأضفت لها كثيراً من الخيال، لأخلق لها عالما روائيا منذ طفولتها حتى نهاية حياتها. 


أدنت العهد الناصرى فى أكثر من رواية لكنك لم تمتدح العصر الملَكى.. ألهذا السبب كانت «السرعة القصوى صفر»؟
«السرعة القصوى صفر» هى مفارقة، عندما يجب أن نتخذ قرارا ما أو نخطو خطوة حتمية ولا نفعل، وهو ما تكرر كثيرا للأسف فى تاريخنا المعاصر، وبصفة عامة إدانة عصر ومدح غيره ليس مجالها الرواية، إنما كتاب أو سلسلة مقالات طويلة، أنا كتبت رواياتى عن أحداث مرّت بنا فى تاريخنا المعاصر، ولأننا لا نقرأ التاريخ أو نقرأ بغير اهتمام، كنت أوضح ما حدث لنا فى المائتى سنة الفائتة، ولماذا وصلنا إلى ما نحن عليه، وهل المقدمات تؤدى الى النتائج، ولماذا نقول كنا أفضل فى الماضي.. إلخ، كل هذه الأسئلة تدفعك لكتابة رواية متخيلة تحكى فيها ما حدث، لكنك تضعه بين السطور، أما الأساس فهو سرد أدبى وحَكى عن شخصيات وأحداث متخيّلة بتفاصيل وكأنها وقعت هكذا، البعض يظن أننى أحنّ إلى الملَكية أو أدافع عنها باستماتة، وهذا لم يحدث وغير صحيح فى الواقع، والبعض يظن أننى أهاجم جمال عبد الناصر لأن أصولى إقطاعية كما كتبوا عني، وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة، لم أهاجم عبد الناصر على طول الخط كما يقال، فقط أنتقد بعض سياسات رأيتها كارثية فيه وفيمن خلَفه، وآثارها لا تزال ممتدة، لكن بالطبع لا يخلو أى عصر من بعض إنجازات وحسَنات، أنا لست أعمى، والمسألة ليست تصيّد أخطاء أو تشجيع طرف ضد آخر، فهذه ليست مباراة كرة قدم، إنما دولة لابد أن يكون لها أسس ودستور وقوانين ومنهج تسير عليه، ولا يتغير بتغيّر الرئيس، لكن لو تأملت أحوالنا فى التاريخ القريب لرأيت أننا نتأرجح منذ سبعين عاما أو يزيد وسرعتنا صفر، أو نجرى فى المكان، كما وصفت الأديبة نورا ناجى حالنا فى روايتها الأخيرة البديعة، أنا لم أمتدح الملَكية، لأن فاروق لم يكن مؤهلا لحكم مصر فى رأيي، وأظن أن بذور الثورة عليه كانت موجودة وآتية بلا ريب بثمار الانقلاب عليه وخلعه، لكن فى عهد ناصر كانت هناك فرص كثيرة كى نكون أفضل وأعظم وأكثر تقدما ،ونحن نستحق بالمناسبة- لكن ما حدث أننا تراجَعنا لأسباب كثيرة الغالبية تعرفها، وأنا لا أدعى أن لدى روشتة إصلاح، ولو كنت أملكها لتطوعت بها فورا، لكنى أكتب بحثا عن حلول وإجابات. 

فى رواية «صالة أورفانيللي» سخر البطل من السهولة التى سقط بها النظام الملَكى فى ثلاثة أيام فقط.. ألم يكن نظاما هشا يستحق هذه النتيجة؟
بالطبع، كان الملك هشا للغاية، ويستحق أن يسقط، لكن المقصود هنا فاروق وحاشيته الصغيرة فقط وليست المملكة ككل، أو النظام الملكى الدستوري، وليست الأخلاق وليست الديمقراطية وليست الحريات وليس التحضر والرقي. كل ما سبق سقط مع فاروق.. لماذا؟ هنا تكمن المشكلة، المجتمع تغيّر جدا بعد يوليو 52 وهو أمر يحتاج لدراساتٍ كثيرة، لا أستطيع القيام بها، أنا روائى أرصد حالة وأحكى عنها فى قالب درامي، وعلى علماء الاجتماع ممارسة دورهم، وعلى الناس الانتباه وقراءة التاريخ بوعى أكبر، لابد أن يكون هناك وعى وإلا لا قيمة حتى لما نكتبه. 


هل هى مصادفة أنك أنهيت الرواية يوم 5 يونيو 2023؟
أكتُب فى كل رواياتى التاريخ الذى أنهيت فيه المراجعة الأخيرة أو آخر تعديل فى الرواية، حتى لو كان مجرد كلمة واحدة، وبالطبع كانت مصادفة. 


«كل  شئ  يُنال بالصبر».. عبارة تكررت كثيراً.. ما الذى ناله أبطال الرواية كلهم تقريبا غير الهزيمة؟
وما الذى نال المصريين جميعهم تقريبا غير الهزيمة فى يونيو 67؟ الناس آمنت بعبد الناصر ووثقَت فيه، فماذا فعَل؟ الناس لعنَت الملك والملَكية أملا فى حياة أفضل فما الذى حدث بعد الصبر لخمسة عشر عاما؟ وعلى الجانب الآخر ماذا فعلت جماعة الإخوان المنسوبة للمسلمين منذ نشأتها بخلاف الإرهاب والقتل والدسائس والمؤامرات وكل ما هو مرذول ومكروه ومع ذلك آلاف البهاليل آمنوا بها وبمؤسسها ولا يزالون إلى يومنا هذا بيننا؟ يا سيدى الفاضل الرواية حياة موازية وأنت عندما يغيب وعيك بالشعارات والإعلام ستكون النتيجة تحولك لمجذوب لن يفيق أبدا، ووقت الصدمة ستهذى أكثر فقط. الوعى هو الحل.


عادت «سارة» إلى وطنها فرنسا وعادت «أمينة» إلى مصر وكل منهما اقتسمت الأبناء مع الأب.. وكأنك تقول إن الوطن والمرأة وجهان لعملة واحدة؟ 
إلى حد كبير المرأة والوطن وجهان لعملة واحدة، والمرأة هنا هى الزوجة والأم والأخت والصديقة والحبيبة، هى المشاعر الحقيقية التى تحركك. فى الرواية كان الهدف الأكبر الإشارة إلى حالة الانقسام التى أتت فيما بعد فى مرحلة لاحقة، لأن طالما الأيديولوجية هى المسيطرة على التفكير، وهى التى تشكل الوعى الجمعي، ستكون النتيجة مزيداً من الانقسامات.


«فايز حبشى» فاكهة الرواية إن جاز التعبير.. لماذا كان وصف النهاية الحزينة على لسانه وكأن شر البليّة ما يضحك؟
الحقيقة أن «فايز» هو صوت الراديو الحقيقى فى الرواية، هو الإعلامى الذى قرر ألا يكذب ويقول ما جرى بالحرف الواحد، وهو رغم وصفك له بفاكهة الرواية إلا أن به مسحة حزن من البداية، ورأيت أنه من المناسب أن أختتم به الرواية كلها، وكأنه يلقى علينا البيان الأخير، أو يذيع لنا آخر خبر بعد انتحار المشير عامر. 


ما المشكلة التى تواجه الكاتب عندما يقوم بتضفير الأحداث الواقعية فى عمل أدبى؟
هى عملية دقيقة للغاية، لأن الوثيقة التاريخية جافة، والتاريخ نفسه ليس على شكل حكايات مسلية كما يظن الناس، ولابد أن ينتبه المؤلف وهو يكتب روايته بأن يجعل الأحداث التاريخية خلفية لقصته، لا أن يحكيها كما وقعت حَرفيا، وإلا لا معنى للكتابة الإبداعية، الرواية ليست حَكيا للتاريخ بقدر ما هى محاكمة عادلة له، وخلق حياة موازية معه لحَكى المخفى منه الروائى ألا يجب  تتسيّده الوثيقة وتُخفض رأسه ليقرأ منها، إنما عليه أن يدرسها ويهضمها ويقول رأيا كوّنه من القراءة والفهم فيما جرى من خلال شخوص وأحداث متخيلة بالكامل، وعلى مَن يريد التاريخ أن يذهب إليه فى «المَراجع».


ألا ترى أن الليبرالية «وجاهة مثقفين» أكثر منها تطبيقاً فى واقعنا العربى وأن تجارب الديمقراطية آلت إلى نتائج كارثية؟
أختلف مع هذا الرأي، فى تقديرى أن الليبرالية لم تأخذ فرصة كاملة كى نحكم عليها بأنها مجرد وجاهة، ولو أتيحت لها فرصة حقيقية بالفعل ربما تؤتى ثمارها، لكن بالحال الموجود عليه عالمنا العربى هى أشبه بمحاولات القفز من فوق سور من الأسلاك الشائكة، تصيب فى مرة وتخفق مرات كثيرة، وفى غالبية الأحوال تثير الشفقة بسبب الجراح الكثيرة التى تلحق بها. 


لك 11رواية متنوعة حتى الآن.. لو فكّرت فى كتابة جزء ثان.. أيها تختار؟
سؤال صعب لأن التنوع هو معيارى الأول عند اختيار الفكرة، ولو لم أجد التنوع لِما كتبت. لكن ربما الرواية الوحيدة التى يمكن أن يكون لها جزء ثان فى تقديرى وأحافظ فيها على التنوع، هى رواية «كلاب الراعى» لأن عصر محمد على مثير ومغر بالكتابة عنه من زوايا كثيرة. 


ما مشروعك الروائى القادم؟
لدى ثلاث أفكار لروايات طويلة، ولدَى ضِعفها لقصصٍ طويلة نسبيا أو روايات قصيرة، وحتى هذه اللحظة لم أستقر على أى شىء، أحتاج بعض الوقت لكى أتشبّع بفكرة واحدة فقط، وأشعر أنها تمكنَت مني، ووقتها أبدأ فى الكتابة. لكن إلى الآن مازلت أخاف من كتابة القصص أو النوفيلات، وما زلت أحب الرواية الطويلة بتفاصيلها. ربما أكون على خطأ لكنى أستمتع أكثر. 


لماذا هاجمك بعض الحقوقيين مؤخرا ولا يعتبرونك مدافعا عن الحريات رغم رواياتك التى تتحدث عن العدل والظلم فى أغلبها؟
لأن نظرتهم قاصرة، وحكمهم معمم فى غالبية الأمور للأسف، وبعضهم أصدقائى وأحترمهم وأحترم دورهم وعملهم جدا، لكن لا أعرف تحديدا سببا آخر لهذا الهجوم السخيف وغير المبرر من وجهة نظري، ربما أيضا لأننى مازلت أعمل قاضيا، ولأننى عملت محققا جنائيا لسنوات طويلة، وبالتالى يعتبرون أننى بعيد عنهم بحكم الوظيفة، وفى الحقيقة أنا كنت وما زلت معتزا بعملى فخورا به، وليس لدىّ ما أخجل منه، ولم أفعل إلا ما يرضى ضميرى ولم أخالفه يوما ما، وعملت فى حدود القوانين وما تعطيه لى من سلطات وما تمنعنى منه فى الوقت ذاته، وهُم يعرفون ذلك جيدا، لكن وقت الظهور الإعلامى هناك دائما كلام آخر، وفى تقديرى أن بعضهم مثل غيرهم لديهم نظرة أحادية وديكتاتورية مستترة، ويقومون بالتعميم دائما لأنه أسهل بالنسبة لهم، وأنا كنت اهتم وأرد وأوضح فى البدايات، لكنى الآن أتجاهلهم تماما، ومَن يريد الحكم علىّ فليقرأ ما أكتب، أو ليسألنى عن حقيقة موقفٍ محددٍ بدلا من الصوت الواحد الذى يقوله بعض الحقوقيين عن جهل للأسف، وإذا لم تعجبه إجابتى -وهى موثقة بالمناسبة- فليستمر فى الهجوم علىّ، ووقتها لن أقول له أى شيء، فأنا لن أصلح الكون، ولن أغيّر آراء الناس، ولن أستطيع أن أكتب رواية تُعجب الجميع. أنا روائى أحب الكتابة، وأكتب ما أحب، ولا أفعل إلا ما يرضينى ويريحني، ولا أريد شيئاً من أحدٍ.