«آيس كريم» قصة قصيرة للكاتبة نجوى عبد الجواد

نجوى عبد الجواد
نجوى عبد الجواد

تدب قدماها على الأرض وتمر عيناها على المحلات المضاءة والسيارات المنطقة، والبشر الذين يملئون الشوارع وكأن البيوت قد فرغت للتو من ساكنيها. الأرصفة مشغولة بالبضائع والبشر، تسير وسط الشارع فتتلقى تحذيرات السيارات، تأتي بجوار الرصيف فتصطدم بأحد المارة لتستيقظ من شرودها مرات ومرات .

 ليس بجديد أن تلقى بنفسها إلى الشارع وتطلق لقدميها العنان وتسير بلا هدف كلما نأت عنها البهجة  وشعرت بذبول زهور الحياة من حولها. فقط تستنشق هواء الشارع وتستمع لما يصل لأذنها من ضجيج يطلق عليه أغاني مهرجانات، وتشغل ذهنها بما ترى، وتجدد طاقتها من وجوه الناس المتعبة! وتعود للبيت بحالة أفضل.

اليوم تكرر ما سبق فعله مرات، لكن بلا فائدة.! فمازال الجبل جاثما. تخجل من قطرات تهمي من حين لآخر، تقاوم نفسها:

تماسكي، هو فيه إيه، إيه الجديد يعني، الناس تقول عليا إيه وهي شايفه الدموع دي! اشمعني المرة دي، ما طول عمرك عايشه في صمت.

 

كل ما حولها يجعلها تقتنع أن الحياة بلا حياة!، إنسان آلي يتحرك، لا حديث إلا عن الأكل والشرب والمدارس والدروس ومشاكل العمل ومطالب البيت.... "وأنا "؟ فين أنا من كل ده؟ النهاردة كملت السابعة وتلاتين، الفيس ذكرني بعيد ميلادي، نسيته أنا كمان زي مانسيت عيد زواجنا!، معرفش مين اللي اخترع الأعياد دي، شكلهم اخترعوها علشان نحزن بزيادة.

وسط دموع تتساقط تسرع إليها قبل أن يكتشفها الناس تتذكر عيد زواجها وتنقلب إلى ضحك هستيري يشاركها بعض من رآها بابتسامة، الطقم الجديد الكوافير، رائحة العطر التي تملأ البيت، الشموع تحيط بالمائدة العشاء الفاخر، دخل ليغير ملابسه بعد أن عاد متأخرا تنظر للمائدة وهى سعيدة، سوف يسعد بها، الهدية، تلقى نظرة أخيرة على هديتها، ترى من صاحب الهدية الأجمل أكيد هو تبتسم، هو الأغنى، الطعام سيبرد،فينك يا منير، اتأخرت "صوت الشخير" يعيدها من حيث أتت، لتجلس، هى والشموع سيان .! كنت تعبان مشعرتش بنفسي، حصل خير نحتفل تاني مش هيحصل حاجة!. تعبت من السير أصابها الظمأ، أدخل أستريح وأشرب حاجة باردة

ميه وآيس كريم من فضلك

الآيس كريم مثلج جدا.. ياللا مش كل بارد وحش.. صوت بداخلها يطاردها لحد أمتى ؟! ممكن يكون لها فرصة تانية مع الحياة. ، تحن لهذه الحياة الحالمة، حكايات الزميلات، فيديوهات النت تبادل منشورات الحب والهيام بين الأزواج.... طيب والعيال؟

مالهم؟ هيبقوا بيني وبينه، هم لسه صغيرين مش هيلاحظوا الفرق بين الحياتين. تمسك بكاسة الآيس كريم وترفع الملعقة الصغيرة إلى فمها.. باردة مثل حياتها! منها أنواع مختلفة تتراص على المائدة المجاورة حيث يجلس أطفال في أعمار مختلفة مع رجل يبدو أنه والدهم.

كل منهم يضع وجهه في كاسته. يلتهم الطفلان كاستهما وتظل البنت الكبرى متنقلة بين كاستها والهاتف، أما الرجل فكاسته ذات اللون الواحد تتحول إلى سائل تدريجيا. يتذوق القليل ثم يعود إلى هاتفه، لا حوار يدور إلا الصمت. يهمس الطفلان، يحاولان التحرك من مكانهما فتعيدهما نظرة الأب تارة وحديث الطفلة الكبرى تارة أخرى.

تُرفع الكاسات ويحل محلها مشروبات مثلجة ويتكرر المشهد، كل يمسك بمشروبه، يتحرك الطفلان صوب الأطفال المجاورين، تحاول الأخت الكبري إعادتهم إلى الالتزام بقواعد الجلسة! ولما لم يستجيبا تنهض وتجبرهما على استتباب الأمن! إنها نسخة من ندى صديقتي وكذا أخوتها، يبقى دول ولاد دلال أخت ندى جرح انفصالها مازال حديثا! وده الأب المهندس أحمد واخدهم يفسحهم. عدت من شرودي إليهم يختلس الأب بعض النظرات لأطفاله ويطلق لبصره حرية التجول في المكان ثم يعود للهاتف. الابنة الكبرى تلقى بنظرها بعيدا عن الهاتف إلى حيث والدها أمامها لتعود إلى مشروبها وهاتفها وقد حبست كلمات تصارع للخروج من شفتيها. وينتظر الطفلان الإفراج عنهما بين لحظة وأخرى!.

بكل اعتقادي في مسئوليته عما حدث ويحدث صوبت نظرة غاضبة سرعان ما ذابت تحت تأثير يده المرتعشة ووجهه الشاحب ومظهره غير المهندم.!

تطلبوا حاجة كمان؟

لا، شكرا.

لسه هنقعد شوية اطلبوا حاجة تانية.. لا عايزين نروح بيتنا.

آه ماشي حاضر، شوية كده ونقوم، مستعجلين ليه؟.

هذه المرة كانت نظرتي مقتحمة، أحدق فيهم ولا أراهم، تصلني همسات الطفلين ولا أسمع.

الحساب يا هانم.

الفلوس على الترابيزة والباقي عشانك. تسابق لهفتي قدمي.ّأعبر الشوارع والمحلات والبشر ولا أرى شيئا أمامي فقط زوجي وأولادي في الترابيزة المجاورة! يهرع أولادي إلى حقيبتي بحثا عن الشيكولاتة. يغلب شوقي إليهم شوقهم إلى الشيكولاتة .ينسحب القلق من وجه زوجي ويحل محله علامات غضب يحاول كبتها. كنت فين وليه مش بتردي؟ أخرجت الحلوى مستمتعة بسعادة الأولاد بها 

      يحاول التبسم وفين بتاعتي أنا،؟ يقترب ويجلس بيني وبين الأولاد ما أنا ابنك أنا كمان ولا علشان طويل حبتين هههههه . أقاوم ابتسامة. خلاص بقى فكيها، يخطف شيكولاته من يدي:أكيد دي بتعتي، طعمها حلو زي اللي شرياها. يهجم عليه الأولاد بغته لأخذها، يتصارع الجميع عليها وضحكاتهم تملأ الدنيا تصيبني عدواهم فأبتسم ثم أضحك مثلهم، ثم أضحك من قلبي.