«الحكيم» ينفي بخله بوليمة على نفقة التابعي.. وناصر يحميه من النقاد

الرئيس عبد الناصر يكرم «الحكيم» بوسام الجمهورية
الرئيس عبد الناصر يكرم «الحكيم» بوسام الجمهورية

ما أكثر المواقف والطرائف التى رواها أنيس منصور فى أكثر من مقالٍ عن الكبير العظيم توفيق الحكيم الذى كان يستمتع بما يقال عن بخله وشحه وتقطيره، ويروى أنيس بعضاً من هذه المواقف فى كتابه «الكبار يضحكون أيضاً» الذى يقول فيه : سألت د. طه حسين ذات مرة : هل توفيق الحكيم بخيلاً؟ قال: ليس تماماً ولكن لا يضايقه أن يقال عنه ذلك، وسألت إحسان عبد القدوس فقال : المهم عند توفيق الحكيم أن يكون على كل لسان، وقال كامل الشناوى : الحكيم يغريك بأن تجعل منه نكتة، ويطالبك بأن تحكى ما يقال عنه، وذات مرةٍ قلت لتوفيق الحكيم : انصحنى، فقال: أن تكون بخيلاً أفضل من أن تمد يدك إلى البخلاء!، فقلت: أعجبتنى هذه الجملة، فقال : هناك جملة أعجبتنى جاءت فى كتاب «البخلاء» للجاحظ الذى تحدث عن رجلٍ بخيل إذا أكل بيضة واحدة فى السنة كان يقول «هذه فرخة بلا عظام»!، فقلت : وما نصيحتك الأخيرة ؟، قال : شوف، النوم أرخص حاجة فى الدنيا، وأنت نائم لا تأكل ولا تشرب، ولا تعزم أحداً على الأكل، ولا يعزمك أحد!. 

■ أنيس منصور في حضرة توفيق الحكيم

●●●

عندما كنت رئيساً لتحرير مجلة «آخر ساعة» طلبت من توفيق الحكيم أن يكتب للمجلة فقال: «أنا متزوج «الأهرام» والكتابة فى مكان آخر خيانة زوجية، وإذا كان لابد فيجب أن يكون الأجر أكبر، لأن هذه الخيانة يجب أن يكون لها ثمن»، وبعد ست سنوات اقترحت عليه أن يكتب لمجلة «أكتوبر» فسألنى: كم تدفع؟ قلت: ضعف الذى تأخذه من «الأهرام»، فقال : مقدماً؟، قلت: نعم، فقال : الآن، مددت يدى فى جيبى فوجدت ثلاثين جنيهاً وأنا أحتاج إلى مائة، كانت تجلس إلى جوارى الفنانة سميحة أيوب، فدفعت سبعين جنيهاً وضعها الحكيم فى جيبه، وفى الغد أرسل المقال الأول وكان عبارة عن رسائل للقراء والرد عليها، ومضى يكتب حتى بدأت أكتب سلسلة «فى صالون العقاد كانت لنا أيام»، وبعد أول مقالٍ من هذه السلسلة امتنع الحكيم عن الكتابة نهائياً، وعندما سألته عن السبب قال: لا خلاص، انت مطلع العقاد السماء، وأنا عامل من نفسى أراجوز بمائة جنيه، فقلت: نضاعف المبلغ، قال: ولا بألف جنيه!، وتوقف نهائياً عن الكتابة فى المجلة، وقال لى: المقال الوحيد الذى تكتبه عن العقاد يساوى كل ما كتبت عنه فى أى وقت، وليس لى تلاميذ مثلك يقيمون للعقاد عرشاً فى دنيا الأدب، وبدا عليه الحزن عندما قلت: هل اقترح عليك موضوعاً آخر، قال: عارف الموضوع.. أن أكتب وصيتى وأن تكتب عنى مثل هذه السلسلة وأن أقرأها قبل أن أموت، قلت : أتمنى، فأجاب بسرعة: وأنا لا أصدق !. 

●●●

سألنى توفيق الحكيم ذات مرة: «هل اتغديت عند العقاد؟ قلت: لا، قال: ولا اتعشيت ؟ قلت: لا، قال: ولا عند طه حسين؟ قلت: لا، قال: الله .. أمال ليه محدش بيقول عليهم بخلاء، طب ايه رأيك فيه ناس كتير اتغدوا عندى، ومنهم: كامل الشناوى، ومحمد عبد الوهاب!.. وسألت الثلاثة فقالوا: الحكيم وعدنا ولكنه لم يفِ بوعده، عدت إلى الحكيم أقول له: إنك وعدتهم ولكن أحداً لم يدخل بيتك! فأجاب: طيب هل وعدك العقاد؟ قلت: لا! قال: وهل وعدك طه حسين؟ قلت: لا! فقال : أنا وعدت وهذه مرحلة، والمرحلة القادمة سيكون الغداء، ولن تأتى هذه المرحلة، وعندما كنا نعمل فى «الأهرام» فى الخمسينيات دعانا كامل الشناوى إلى عشاء فى مكتبه على حساب الحكيم، وكان عبارة عن سمان وبسبوسة وأرز وسلطات، وجاء الحكيم وتلقى الشكر وحاولنا أن نعرف الأسباب التى ورطته فى هذه الوليمة الفخمة فقال ضاحكا: «قلة عقل.. ولن أعود إليها أبداً مهما كانت تشنيعات كامل الشناوى» وشكرنا الحكيم على هذه المأدبة ثم عرفنا بعد ذلك أن الفاعل الحقيقى هو الأستاذ محمد التابعى الذى قام بالمهمة نيابة عن الحكيم ! 

●●●

عاد الرئيس عبد الناصر من روسيا وكان وقتها توفيق الحكيم يتعرض لحملة عنيفة فى صحيفة الجمهورية بصفة خاصة، وخلاصة هذه الحملة أن الحكيم يقتبس أفكار رواياته من أفكار الآخرين فى مصر والعالم، ويقال: إن الرئيس عبد الناصر قد تضايق.. وقيل - إن كان قد قال - إنه وجد فى روسيا أنهم ينسبون كل الاختراعات إليهم، فهم الذين اخترعوا التليفون وليس الأمريكى «بل» وهم الذين اخترعوا الراديو وليس الإيطالى « ماركونى» وهم الذين اخترعوا القطار وليس الإنجليزى ستيفن سون، وهم الذين اكتشفوا الميكروبات وليس الفرنسى باستير، وأن الروس يجردون العلماء الأجانب من كل اختراعاتهم وينسبونها إلى علمائهم، بينما نحن نجرد أديبنا الكبير توفيق الحكيم من كل إبداعاته وننسبها للآخرين ! 

وتوقفت الحملة عن توفيق الحكيم.. وكان الحكيم سعيداً بهذه النهاية لولا أن شيئاً واحداً ضايقه جداً، ولا يعرف ماذا يفعل.. فهو يرى أن الذين هاجموه فى شهور قد تقاضوا أجراً على ذلك.. فلماذا لا يتقاضى تعويضاً عن هذه «البهدلة» وهو ما يعادل مرتبات كل الذين هاجموه، ولما قال له كامل الشناوى: إنهم لم يتقاضوا مرتباتهم من شهور.. قال الحكيم: علشان كده بيهاجمونى؟ طيب ما تقولوا للرئيس يدفع لهم أى حاجة كده، فقال له مصطفى أمين: إن الرئيس أمر لك بمكافأة عشرة آلاف جنيه، فسأله الحكيم «شهرياً»؟، فقال مصطفى أمين: «لا.. سنوية»، فقال: كل البهدلة دى بعشرة آلاف جنيه بس؟ فبادره مصطفى أمين قائلا: «أحسن من ما مفيش»، فقال: «لأ.. مفيش أحسن، فقد كنت أستمتع بالشتيمة لأنهم كانوا يتناولون جوانب غريبة من مؤلفاتى، وأشياء لا تخطر على بالي، حتى فكرت أن أكتب مسرحية بعنوان «مدرسة الفضائح الجديدة «بشرط أن يقررها الرئيس على المدارس، فإذا فعلت كسبت من ورائها عشرات الألوف» وبعدها قال مصطفى أمين للحكيم: إن الرئيس عبد الناصر قد أعجبته الفكرة، فرد الحكيم متشككاً: واضح إن هذا مقلب منك، وبدلاً من أن اتخانق مع النقاد اتخانق مع الرئيس وتكون النهاية، النقاد أرحم !

●●●

وفى مرة زرته مع الفنان الكبير صلاح طاهر وكم أمتعنا توفيق الحكيم رغم حالته المرضية، كان يقول لنا: «لا تتركانى وحدى، سأكون فى انتظاركم فى جهنم مع طه حسين والعقاد، لا تغيبا عنى! ونقول له: حاضر يا توفيق بك، فيستكمل المداعبة قائلاً: سأختار لكم مكاناً بحرياً، يكون هواؤه جهنمياً، ولكن أقل حرارة، أنا فى انتظاركم وهاتوا معاكم كل أصحابكم، سوف نقضى وقتاً مهيباً نبيلاً فى جهنم إن شاء الله»!

أنيس منصور
من «الكبار يضحكون أيضاً»