«قصة جديدة» قصة قصيرة للكاتب ناصر كمال

 ناصر كمال
ناصر كمال

منذ زمن يقدر ببضع سنين لم أكتب قصة جديدة... انتظر إلهاما لم يأت، وحماسا افتقده، ولأن صديقي الكاتب الكبير أخبرني أن من يبدأ الكتابة كمن يفتح نافذة يطل منها على عالم فسيح من الإبداع يقبع منتظرا اكتشافه... قررت أن أمسك بالقلم، وأحاول أن أخط أول الكلمات لقصة جديدة... كتبت كلمة... اثنتين... ثلاثة... ثم لم أستطع أن أكمل الجملة، فقررت شطبهما... كان لا بد من أجول فى خبايا الذاكرة المتخمة بأحداث لا حصر لها، لانتقى منها ما يناسب قصتي... ظلت المشاهد تتصارع أمامي، كلا منها يبغي أن يعبر الى أوراقي المبعثرة... قررت أخيرا أن ألتقط منها مشهدا من القرية الغنية بمفرداتها، وتقاليدها العريقة، وأحداثها التى لا تهدأ... وبدأت الكتابة:

«كنت أسير وقت المساء بمحاذاة الغيطان الممتدة على أطراف القرية... استنشق النسيم المحمل برائحة الأرض الطيبة، عندما سمعت طلقا ناريا... ارتعدت أوصالي، وأنا ألتفت يمينا ويسارا، لأري مصدر هذا الطلق، وأعرف مبعثه وأسبابه... ترين هل هو أحد الخفراء الذين يحملون بنادقهم ويجولون بين الحين والآخر بين الطرقات؟ ولكن إطلاق النار هذا لا يحدث إلا إذا كان هناك أمر جلل... تريثت دقائق حتي تبينت مصدر الصوت ومن ثمة هرعت ناحيته، حيث اخترقت بجسدي النحيل أعواد الذرة الكثيفة، لكي أصل إلى مساحة فارغة فى منتصف الغيط... تقبع فيها شجرة نخيل يستند عليها" سيف الضمراني "ممسكا ببندقيته، وهو ينظر شذرا على جثة مضجرة في دمائها، وملقاة على الأرض على بعد أمتار منه ل" حافظ عواد "... من أول وهلة أدركت الأمر، فهو ثأر قديم بين العائلتين، ومن حظي السيء أنه تم اليوم حين قررت الخروج، وهو شيء نادر الحدوث، حيث أفضل المكوث فى غرفتي أتجول بين صفحات الكتب... لمحني" سيف "فصوب بندقيته ناحيتي... سقطت على ركبتي متو...»

كل... قلتها بصوت مرتفع، ثم وضعت جبهتي بين كف يدي اليسري، بينما القلم يرتعش بين أصابع يدي اليمنى... انتظرت دقائق، ثم أمسكت بالورقة... كرمشتها جيدا قبل أن أقذفها بقوة في سلة القمامة... لن أعترف أنني كنت لحظتها جبانا رعديدا، وظللت طوال حياتي صامتا خوفا على حياتي البائسة، والتى لا أستطيع أن أقول إن لها قيمة تذكر، فحتي ما أكتبه وينشر على صفحات الصحف والمجلات الأدبية لم يغير شيء فى حياتي أو حياة أحد ما... إذا لماذا هذا الإصرار على كتابة قصة جديدة؟ أنه باعث لا استطيع أن أدرك كنهه... هو شيء على القيام به... يجب أن استمر في الكتابة ما دمت نويت ذلك... هل ألتقط مشهدا آخرا من الذاكرة أم؟؟؟ هنا قفزت إلى ذهني فكرة... لماذا يجب أن أنقل الحدث كما هو؟... سوف أستخدم مخيلتي التى تكتظ بقصص كنت فيها بطل طوال الوقت... كمْ هزمت فيها من الأعداء، وخلقت فيها عالما خاصا يخضع فقط لقواعدي، وعشت فيها أحلام يقظة سعيدة... سأغير الأحداث طبقا لقواعدي تلك، وأعيد كتابة نفس القصة من جديد ثم أكملها كالآتي:

قبل أن يصوب  «سيف» بندقيته ناحيتي وثبت عليه لانتزعها منه... حذرني من مغبة ما أفعله، وأنني سوف أواجه متاعب جمة... لم أكترث... جعلته يسير أمامي حيث قدته إلى دار العمدة، والذى ما لبث أن طلب المركز وهو الإجراء الضروري في مثل هذا النوع من الحوادث الخطيرة... كنا في فصل الشتاء حيث يلازم الناس منازلهم فى هذا الوقت هربا من برودة الطقس... يتجمعون حول المنقد وأمام التلفاز... يشعلون أعواد الذرة لمقاومة الصقيع والتدفئة، لهذا كان الهدوء يخيم على طرقات القرية والذى قطعه صفير سيارة الشرطة الذى ظل يتردد قويا في أنحاءها حتي وصلت إلى دار العمدة... خرج الناس جميعا لينظروا السبب... سرعان ما تجمع معظم أهالي القرية حيث استقرت السيارة يتسألون عما جري... لم تمضى دقائق حتي تسرب الخبر لهم من أحد الخفراء...

خرج بنا ضابط الشرطة وخلفه الجنود يمسكون بالقاتل وبجانبهم كنت أسير قلقا من كثرة الجموع حولنا... سمعت صوت العويل والصراخ قادما من بعيد بعد أن علمت نساء القتيل بالخبر... لقد تجمع موكبا ضخما من أهالي القرية من الرجال يتبعهم بكاء وصراخ وعديد النساء من الخلف، ويتقدمهم رجال الشرطة متوجهين إلى موقع الحادث...

كنت رغم قلقي الشديد من هول الموقف متباهيا بقدرتي على القبض على القاتل، حيث كنت أري نفسي بطلا مغوارا، لذلك رحت أراقب الجمع الذى يسير بيننا لعلى أري منهم نظرات التقدير والأعتزاز، فأذا بى أري بدلا من ذلك ملامح ساخطة وغاضبة تتوعدني، ولم يكن ذلك من أهل القاتل بل أيضا من أهل القتيل... بدأت طوال الطريق أحاول تفسير تلك النظرات العدائية من الجميع... أخيرا أدركت السبب، فأنا بالنسبة لهم خائن... لم يكن أهل قريتي يفضلون تدخل الشرطة فى حل مشاكلهم وخاصة في حالات الثأر...

أنهم يفضلون أن تحل بطريقتهم الخاصة، وهي الدم بالدم... وصلنا أخيرا إلى موقع الجريمة حيث كانت جثة" حافظ عواد "ملقاة فى نفس مكانها... غارقة فى دمائها... عندما رأيته أحسست أن أمرا سيئا جدا فى طريقه للحدوث... لم تمر دقائق حتي سمعت طلقا ناريا... سقطت أرض، وأنا أشعر بالدماء الدافئة تبلل قميصي، وتنساب بلونها الأحمر القاني على الأرض بجانبي، بعدها أحسست ببرودة شديدة قبل أن يتلون كل شيء حولي باللون الأسود، وتختفى صورة هذا العالم عن ناظري إلى الأبد... تمت"

أخيرا قد انتهيت من كتابة قصتي الجديدة... أعدت قراءتها مرارا وتكرارا، وفى كل مرة أجدها جيدة، وتغمرني سعادة بإنتاجي لمثل تلك المقطوعة الأدبية الفريدة... تركتها لأعد وجبة خفيفة، وأقرأ كتابا كنت قد أشتريته لكاتب حصل على جائزة نوبل مؤخرا... بعد ساعات من القراءة، اعدت النظر إلى قصتي، فلم أجدها جيدة كما كنت أظن... دخلت فى سكون للحظات قبل أن أمسك بها، وأكرمشها أيضا، ثم ألقى بها في سلة القمامة كسابقتها... أنظر الي الأوراق البيضاء أمامي... أقرر أن أتركها كما هي حتي يوم الغد فربما يكون ذلك الوقت مناسبا أكثر لأبدع قصة جديدة.